المقدمة :
أحمدك يا رب حمد مقر بربوبيتك ، معترف بألوهيتك ، متعبد بأسمائك ، أنت الأول فليس قبلك شئ ، وأنت الآخر فليس بعدك شيء ، وأنت الظاهر فليس فوقك شئ ، وأنت الباطن فليس دونك شيء ، وأنت الحي القيوم الذي لا يموت والإنس والجن يموتون ، أشهد أنك أنت الله الذي لا إله إلا هو الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد . وأشهد أن محمد عبدك ورسولك وصفيك وخليلك ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما .
أما بعد ، فإن القرآن هو معجزة محمد عليه الصلاة والسلام التي بعث بها ، وهي معجزة دائمة باقية دوام الإسلام وبقاء الحق .
والقرآن أسمى وأجل من أن يمدحه بشر ؛ لأنه كلام رب البشر ، وأعلى وأعظم من أن يثني عليه مخلوق ؛ لأنه تنزيل من الخالق ، وإن أحسن الأوقات وأسعد اللحظات حين يعيش العبد مع آياته البينات تاليا متدبرا خاشعا .
وقد أحسن علماء الأمة في تفسير كتاب الله ، فمنهم من قصد اللغة في القرآن فشرح اللفظ وبسط القول فيه ، ومنهم من قصد الآثار وما ورد في الآية من أحاديث وأخبار فجمع وأوعى ، ومنهم من أراد مقاصد الكلام وفقه كتاب الله فاستنبط من الآية ما فتح به الفتاح العليم
والناس كل له مذهب في قراءته ومطالعته ؛ فما يعجب ذاك ؛ لأنه قد علم كل أناس مشربهم ، ثم أنهم لا يصبرون على طعام واحد ولا يدومون على حال واحدة ، فمهما كتب كاتب من القرآن وجد لما كتبه محبين ومعجبين ، وقد استعنت الله في كتابة ما أستطيعه من معان تظهر لي عند تلاوة كتابه لو لم أستفد من كتابتها إلا أنها كانت سببا لتدبيري القرآن والتأمل في حكمه ومواعظه وقصصه وأخباره وأحكامه وأمثاله لكان ذلك من أجل فائدة واحسن عائدة ، وقد حرصت على أن يكون ما كتبته وعظا لمن قرأه ولمن سمعه ، وتربية لمن طالعه وتأمله ، وجانبت الفنون التي ذكرها المفسرون في تفاسيرهم ؛ كالمسائل اللغوية والنحوية ، وفروع الفقه ، وجمع الآثار الوارد في الآية بل حاولت التسهيل والتقريب مع ربط أحوال الناس بالقرآن في كل أحوالهم وفي شؤون حياتهم ، وربما بسطت الكلام عن الآية كمعان ظهرت لي لا يجمل إغفالها .
ولك أن تعتبر ما كتبته من التفسير الوعظي الأدبي التربوي الذي يعتمد على الأسلوب الخطابي ليكون صالحا إن شاء الله للخطيب على المنبر ، وللوعظ في محاضراته ، وللمعلم في دروسه ، ولعل من عنده أدنى باللغة العربية أو أثاره من علم يفهم ما أكتبه ويعي ما أمليه ؛ فالمقصود بهذا الكلام جمهور الناس وإنما كانت الشريعة في عمومها للغالب والجمهور وجانبت الغريب والشاذ من الأقوال وإيراد الخلاف في تفسير الآية وحشر أقوال المفسرين ، وكل هذا مفروغ منه فيما كتبته الأمة من قبل ، فنحن بحاجة إلى إلهاب العاطفة ، واستثارة الهمة ، ومخاطبة الوجدان في زمن غلبت فيه المادة والخلود إلى الأرض ، والتهافت على الشهوات ، والوقوع في المنهيات ، والعزوف عن العلم ، والإعراض عن الفقه في الدين ، فكان من المهم توجيه الرسائل الخطابية الوعظية التربوية ، وقد تكون في ثنايا التفسير او في غصون شروح الحديث ؛ لأن الأسلوب العلمي التقريري قد تم والحمد لله وكثرت كتبه وتعددت مصنفاته .
وأسأل الله باسمه الأعظم الذي وأسأل الله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب أن يقبله مني وأن ينفعني به ومن قرأه أو سمعه إن ربي على كل شيء قدير .
(وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ )
ليس من مواهبه الشعر ولا من طبيعته ، وليس عنده وقت لتهوك الشعراء ووله الأدباء ، وليس لديه خيال شارد يقتص سوارح الأفكار ، بل جاء برسالة جليلة ووفد بوحي عظيم ، وأن محمد صلى الله عليه وسلم ليس شاعر يضرب الأخماس بالأسداس ، ويهيم في أودية الخيال ، بل هو نبي معصوم ، كل كلمة منه دين ، وكل جملة منه سنة ؛ لأنه جاء لإصلاح العالم ، وليس لدغدغة العواطف وملاعبة المشاعر كما يفعل الشعراء ، فليس عنده فراغ في العمر لنظم بنيات الأفكار ، ولا لإطراب الجمهور ، والحق مقصده ، والإصلاح أمنيته : (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ)
ولم يكن صلى الله عليه وسلم شاعر ؛ لأن الشعر لا ينبني على الحقائق ، ولا يقوم على البرهان ، فالشعر مزيج من الخيال والهيام والغرام والوله والكذب والزيف ، وصان الله رسوله صلى الله عليه وسلم من ذلك .
وما ينبغي لمحمد صلى الله عليه وسلم أن يقول الشعر ، فما جاء لتسلية الناس ولا لمدح الملوك ، ووصف الديار والبكاء على الآثار ، بل أتي ـ بنفسي هو ـ لغسل الضمير من أوضار الشرك ، وتطهير الروح من دنس الوثينة ، وعمارة الكون بالإيمان ، فأنفاسه تعد ، وثواني عمره تحسب ؛ لأن مهمته لا تحمل التأخير فهو مبعوث من الخالق إلى الخلق برسالة محمدية عنوانها لا إله إلا الله محمد رسول الله . العاطفية والتسليات لهو تعطيل لهذه الرسالة عن أداء مهمتها وتفريغ لها من محتواها الجلي العامر .
إن مع محمد صلى الله عليه وسلم ما هو أجمل من الشعر ، وأبهى من الأدب ، وأحسن من الحسن ، ألا هو هذا الكتاب الباهر المعجز الذي أسكت الشعراء ، وأفحم الأدباء ، وأذهل العلماء ، وحير العرب العرباء :
إذا تغلغل فكر المرء في طرف
من حسنه غرقت فيه خواطره
(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ)
نحن نقص عليك فدع قصص غيرنا ، ولا تلفت إلى قصص سوانا ؛ لأن قصصنا هو الحق الصريح والعلم الصحيح ، قصص تسكب في النفس نهرا من النور ، وفي الضمير وابلا من الرشد ، قصص ليس كقصص البشر الذي يعتريه ضعف النقل ، أو شذوذ الغرابة ، أو جموح الخيال ، أو مخالفة المعهود ، ومناقضة سنة الكون .
يروى في بعض الآثار أن الصحابة قالوا : يا رسول الله ، لو قصصت علينا ، فأنزل الله : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ) وقالوا : لو حدثتنا فأنزل : (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيث) وقالوا : لو وعظتنا ، فأنزل : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ) .
إن في عالم المعرفة اليوم آلاف القصص بكل لغات البشر ، ولكنها عرضة للتحريف والتزييف والزيادة والنقص ، ثم إنها ليست قطعية في ثبوتها ولا دقيقة في نقلها مع ما يكتنفها من تهويل وتضخيم وتكلف وافتعال ، فبعضها لا حقيقة لها إلا في عقول مصنفيها ، وبعضها له أصل ولكنه أضيف إليه أضعافا مضاعفة من المبالغة حتى مسخ الأصل وشوه ، وبعضها ثابت لكن قدم بأسلوب فاتر وعرض بعرض مشلول .
أما هذه القصة وأمثالها من قصص القرآن فيكفيها سموا وجلالا ورفعة أن الله هو الذي يقصها على عبده المصطفى وحبيبه المجتبى صلى الله عليه وسلم .
وفي قوله : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ ) تنبيه على الاتجاه إلى مصدر المعرفة ومنبع الحقيقة ، والمسلم يتلقى علمه وثقافته من هذا الكتاب الجليل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خافه تنزيل من حكيم حميد . وما أدري كيف يصلح شأن أمة تستورد قصصها من مروجي المكر ، وساسة الخداع ، وسماسرة الرذيلة ، وكيف يهتدي جيلها وهو يطاله زبد تلك الأقلام الكافرة بربها ، العاقة لفطرتها ، المتنكرة لمبادئها ؟ !
ولن نقص عليك قصصا فحسب بل أحسن القصص ، ويرى بعض أهل العلم أن أحسن القصص هنا هي قصص القرآن كله ، فقصصه بالنسبة لعامة القصص أحسن قصص وأوثقها وأجملها وأكملها .
ومن أهل العلم من قال : بل المقصود بأحسن القصص قصة يوسف ؛ لأنها مذكورة في السياق المقدم لها بهذا الاحتفال والتنبيه .
وإن قصة يوسف أحسن قصة بالنسبة لما يماثلها في غرضها ومعناها ، بل كل قصة في القرآن أحسن وأجل من مثيلاتها في غير القرآن ، وقصة يوسف أحسن قصة ، لأن فيها مقاصد الهداية ومعاني الإصلاح وأسرار الفلاح ما يفوق الوصف .
فقصص الناس إما قصة بطولية تهيج النفس الغضبية على الاعتداء وطلب الثأر وحب الانتقام بلا ضوابط ولا أصول ، وإما قصة غرامية تشعل الغريزة وتحرك كوامن الشهوة بلا رادع من تقوى ، ولا وازع من عفاف ، ولا حجاب من صيانة ، وإما قصة غابرة بلا ثقة من ناقل ، ولا اطمئنان إلى صدق ، ولا مراعاة للحقيقة .
قصة يوسف فيها دروس تربوية ترتقي بالنفس في سلم الفضيلة ، وتصعد بالروح في معارج الكمال .
في القصة كيف تكون خاتمة من آمن بالله ، وصدق معه ، وأخلص له ، وصبر على أمره ، ودعا إليه ، وجاهد في سبيله . وفي القصة نهاية المكر ، وعاقبة الكيد المحرم ، والحسد المؤذي ، وفيها انتظار الفرج وحسن الظن بالله ، والفأل الحسن والاستكانة إلى موعوده ، والرضا بأمره ، والسكون إلى اختياره ، والاطمئنان إلى جميل صنعه .
وفيها جلال التقوى ، وجمال العفة ، وحسن مراقبة الله ، وإيثار طاعته والانتصار على النفس الأمارة بالهوى الجارف والشباب المجنح .
في قصة يوسف رؤيا تفسر ، وأحلام تعبر النبي صلي الله عليه وسلم وأمثال تضرب ، وعظات تطرق ودروس تلقى .
في القصة قميص يلطخ بدم ، وقميص يقد من دبر ، وقميص يلقى على الأعمى فيرتد بصيرا .
في القصة رجل يتهم بامرأة ، ورجل يتهم بسرقة ، وذئب يتهم بقتل ، وفيها طفل يصارع الحياة ، وإخوة يغلبهم الحسد ، وأب يبرح به حب ابنه ، وبئر يلقى فيها غلام ، وقافلة تبيع العبيد ، وملك يغفل أمور القصر ، وامرأة يغفلها هواها ، وزنزانة تستقبل داعية ، وشيخ كبير يذهب البكاء ببصره ، وقافلة تعبر الصحراء لطلب المعاش ، وصواع الملك يختفي ، ومحاكمة وشهود ، ومفاجآت ليست في الحسبان .
كل موقف يختم بحبكة ، وكل مشهد ينتهي بقفلة ، وكل رحلة فيها عبرة .
وفي القصة آهات ودموع ، وتفجع وشكوى ، واتهامات وحقائق ، ومكائد ودسائس ، وإهباطات وانتصارات ، وفيها وحشة غائب ، وفرحة لقاء ، وحزن وفرقة ، وسرور اجتماع ، وإسمال فقر ، وهالة ملك ، ونفس أمارة ، ونفس مطمئنة ، نبوة وسلطان ، وحرية ورق ، ونساء وخدم ، حاشية ومستشارون ، وشباب وشيوخ ، بيع وشراء .
قميص من عالم اللباس ، وامرأة في دنيا النساء ، وذئب وسبع بقرات في ارض الحيوان ، وصواع من قسم الأواني .
طفل يقفده أهله ، ويكيده إخوانه ، ويبكيه أبوه ، ثم يباع في سوق الرقيق ، ثم يدخل الخدمة في القصر ، ثم يعيش النكبة في السجن ، ثم ينعم بالملك ، ثم يحضى بجمع الشمل وتمام الأمر وكمال الأمنية ، ثم يموت .
المشاهد تلاحقك أينما اتجهت ، الصور تملأ ناظريك حيثما التفت ، يثب قلبك مع كل مشهد ، ويقفز مع كل حركة .
(إِذْ قَالَ يُوسُفُ لَأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ)
كل ما سبق توطئه وتمهيد للقصة ، وتهيئة لها ولفت انتباه قبل إيرادها وسردها .
وتبدأ القصة الشائقة الماتعة الرائعة بلا حواش ثقيلة وبلا تفاصيل مملة .
تبدأ ويوسف في عهد الصبا وسن الطفولة ، يستفيق ذات يوم من نومه وقد رأى رؤيا عجيبة ليقصها على أبيه النبي يعقوب عليه السلام .
رأى يوسف أحد عشر نجما مع الشمس والقمر يسجدان له . وعرف يعقوب التأويل ؛ لأن النبوة في قلبه ، ولم يشرح ليوسف الرؤيا لمصلحة رءاها ، بل وجد أن الأهم من ذلك وصيته له بكتمها وعدم إفشائها وترك نشرها على إخواته ؛ لأنها سوف تثير عليه حسدا دفينا وعداوة متربصة وانتقاما مؤذيا .
وفي الآية لطف الأب مع ابنه وحنانه عليه ، وتوجيهه إلى ما ينفعه ، وتحذيره عما يسوءه ، ونجابة يوسف وذكائه مع صغره ، وعرض الرؤيا على العالم إذا كانت من المبشرات ، وترك تفسير الرؤيا إذا كان في ذلك مصلحة ، وكتم السر إذا حصل بإفشائه ضرر وعليه الأثر : (( استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان ، فإن كل ذي نعمة محسود )) ، والحذر من الأقران ، وستر النعم إذا خشي من إظهارها عدوان عليها ، وأن الشمس والقمر والنجوم في المنام عظماء أو علماء أو زعماء ، وفيه تفسير الرؤيا قد تتأخر سنوات عديدة وأزمانا مديدة ثم تقع بإذن الله .
وإنما قال رايتهم لي ساجدين ، بالجمع للعقلاء ، ولم يقل ساجدات ؛ لأنه لما نسب إليها السجود وهو وصف لمن يعقل ألحقها بالعقلاء وهذه رؤيا ليست عادية ، بل تنبئ عن مستقبل زاهر ليوسف ، وسوف يكون له مع التاريخ صولة ومع الدهر دولة ، ومع الأيام جولة ، سوف بصل إلى تحقيق هذه الرؤيا لكن عبر طريق ملؤه الشوك والضنى والمشقة والبلوى والدموع والشكوى والفراق والفجيعة والمكر والكيد والحبس والقيد والأذى والتشويه والامتحان والصبر كما قال أبو الطيب :
جزى الله المسير إليك خيرا
وإن ترك المطايا كالمزاد
سوف تقع هذه الرؤيا كفلق الصبح ، ولكنها لن تقدم بين عشية وضحاها وعلى طبق من ذهب ، لأن المنازل العالية والمراتب الجليلة لا يوصل إليها إلا بجهود شاقة وتكاليف باهظة وتضحيات هائلة ؛ لأن السنة اقتضت ذلك والحكمة نصت على ذلك ليكون العطاء لذيذا ، والهبة غالية ، والثمن ضخما راقيا .
لا يدرك المجد إلا سيد فطن
بما يشق على السادات فعال
لولا المشقة ساد الناس كلهم
الجود يفقر والإقدام قتال
وفي الوحي المقدس : (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) لا والله لا يصل واصل إلى الولاية الكبرى والسعادة العظمى والعبودية الحقة إلا بجهد مبذول ، وعرق مسفوح ، ودم مسفوك وعرض يمزقه الحسد ، وسمعه يشوهها الجناة ، وقلب يبلغ الحنجرة من التهديد والوعيد ، وكبد حرى تشوى على جمر الانتظار ، وقلب مفجوع بويلات المواقف ، وأهوال تشيب لها رؤوس الولدان ، وحتى يختطف النصر بجدارة ، ويؤخذ الكتاب بقوة ، وينال المجد بتضحية ، وتقطف الثمرة باستحقاق ، وتعطى الجائزة بتأهيل ، فآدم يأكل الشجرة ويهبط ويندم ويتوب وينكسر ثم يجتبى ويعلو ويكرم ، ونوح ينوح من عقوق الابن ، وشقاق المرأة ، ومحاربة قومه ، وموسى يتجرع الغصص ، ويقف تلك المواقف التي يهتز لها الكيان ويرتجف من هولها الجنان مع تهم وإيذاء ، وصد ومنازلة ، وحروب وإعراض وإرجاف .
وإبراهيم يعيش حياته جهادا في سبيل الله مع تكذيب والده ، والأمر بذبح ابنه ، وإعراض قومه ، ووضعه في النار وملابسة الشدائد ، والمرور بالنكبات والمصائب .
وعيسى يذوق طعم الافتراء المر ، والأذى المعتمد ، والفقر المضنى .
ثم تختم قائمة الأنبياء وصحيفة الرسل بمحمد صلى الله عليه وسلم ، فتجمع له هذه النكايات جميعا ليكون أعلى الكل كعبا ، وأثبتهم قدما ، وأسعدهم حظا ، فيموت أبوه وهو حمل ، ثم يتبعه جده وهو طفل ، ثم يلحقه عمه في زمن الضعف ، ثم تتلوه خديجة زمن النصر ، ثم يطرد من مكة طردا ، ويشرد تشريدا مع الضرب بالحجارة ، ووضع السلى على الرأس ، مع قاموس من الشتائم بوصفه بالجنون وقتل الأصحاب ، وموت الأبناء ، وقذف الزوجة ، ومصاولة اليهود ، وتكذيب النصارى ، ومحاربة المشركين ، وتربص المنافقين ، وصلف الأعراب ، وتيه الملوك ، وبطر الأغنياء ، مع مراراة الفقر ، وجدب المعيشة ، وعوز الحاجة ، وحرارة الجوع ، ومعاناة قلة ذات اليد ، فالمرض عليه يضاعف ، فهو يوعك كما يوعك رجلان منا ، شج وجهه وكسرت ثنيته وجرح في جسمه ، ثم كان الله معه في كل ذلك ففاز بالزلفى ونال حسنى العقبى ، بل وصل أشرف المقامات وأجل الرتب .
ويوسف هنا تبدأ معاناته من هذه الرؤيا ، ويستقبل رحلة طويلة ، وشفرا قاصدا بهذه الرؤيا ، لتتحول الأحلام إلى حقائق في حياته ، وتصبح الرؤيا قضايا مصيرية في مستقبله .
ونواصل مع يوسف سجل حياته ، ودفتر عمره وذكرياته ؛ لنرى ماذا سوف يقع ، وما هي النهاية .
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)
هذا عقد بين المسلم وربه ، وميثاق بين العبد ومولاه ، أن يصرف العبد كل عبادته الله ـ عز وجل ـ ولا يشرك معه غيره ، وأن لا يستعين إلا بربه جل في علاه ، فمن العبادة والمسألة والطلب ، ومن الله العون والتأييد ، وهذه الآية ما سأل )) وهي ملخص دعوة الأنبياء وموجز رسالة الرسل عليهم السلام .
ومعاني القرآن مجموعة في هذه الآية ، فالله أوجب على الخلق ، وهو أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، وأوجب على نفسه لهم حقا إذا فعلوا ذلك وهو لا يعذبهم .
والعبادة التي يريدها الله من الخلق هي : فعل كل ما أوجب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من الأقوال والأفعال الظاهرة والخفية ، واجتناب ما نهى الله عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم من ذلك ، والاستعانة طلب العون من الله في كل أمر لا يستطيع عليه المخلوق ولا يقدر عليه إلا الخالق ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام لابن عباس : (( إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله )) .
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) وثيقة مقدسة يعلنها المسلم في كل ركعة من صلاته فريضة كانت أو نافلة ليذكر نفسه دائما بهذا العهد العظيم ، الذي من أجله خلق الإنسان ، ومن أجله أرسلت الرسل ونزلت الكتب ، وقام سوق الجنة وسوق النار ، ومد الصراط ، ونصب الميزان ، وبعث الخلق من قبورهم ، وحصل ما في صدورهم ، وعرضت عليهم صحفهم ، وأقيم عليهم شاهد من أنفسهم .
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) هي قضية الخلاف بين المسلمين والمشركين ، وهي معاني لا إله إلا الله ، ومن أجلها وقع القتال بين أولياء الله واعدائه ، وحصلت الحروب بين ح-الشيطان ، فما بعث الرسل عليهم السلام إلا من أجل أن يعبد الله وحده لا شريك له ، وما سألت دماء الشهداء إلا ليوحد الله ويفرد بالعبادة ويختص بالتوجيه دونما سواه جل في علاه .
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) سعادة أبدية ونجاة سرمدية بها يتم الصلاح وينال الفلاح وتسهل الأمور وتدفع الشرور ،ولا ينال رضي الله ورحمته وعفوه ومغفرته وعونه وهدايته وتسديده إلا بإياك نعبد وإياك نستعين . ولا تحصل النعم ولا تدفع النقم ولا يحصن من المتالف ويسلم من الصوارف ويحفظ من الكوارث والفتن والمحن إلا بإياك نعبد وإياك نستعين، وهي عاصمة لمن قام بحقوقها من الزلل والتخبط العقدي والهوج الفكري والضلال العلمي والسفه الأخلاقي والانحطاط السلوكي والشطط العلمي؛ لأن في إياك نعبد وإياك نستعين عناية ربانية ورعاية إلهية، وولاية إيمانية، وبركة القرآن.
وهي أعظم فتح يفتح به علي الإنسان، فيكرم ويجتبي من عالم الطين، ويصطفي من دنيا الانحلال والتمزق والاضطراب والضياع والانحراف والذل والخنوع والخيبة ، فيرتقي هذا الإنسان بإياك نعبد وإياك نستعين مكرماً في معرج القبول عند ربه. وفي سلم الوصول إلي مولاه ، وفي درجات الفوز إلي خالقه ، وهذا أعظم مجد وأجل رفعة وأحسن منزلة وأشرف رتبة، ويهون معها المجد الدنيوي الموقت المنقطع الزائل الفاني من منصب أو جاه أو مال أو ولد أو شهرة، فيصبح المسلم بهذه الكلمة عزيز الجانب، قوي الركن، عامر القلب، مطمئن النفس، منشرح الصدر،منبلج الخاطر نير البصيرة، لأنه اتصل بالله، ودخل في نسب العبودية، ولبس تاج الخدمة للأحد الصمد، وحمل راية الولاية، وتشرف بالانضواء تحت علم )إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) صلة بين الأرض والسماء، وبين الضعف والقوة، والفقر والغني، والبقاء والفناء، وصلة بين العبد الضعيف الفاني وبين الله القوي الغني الحي القيوم، فيها يحرر الإنسان من الرق للطاغوت، والعبودية للوثن والاستسلام للشهوات، والوقوع في براثن الغواية، والسقوط في مهالك الردى، وبها يغسل الإنسان من رجس الشرك ونجاسة الجاهلية، وخبث الكفر وأدران الفسق، وأوساخ المعصية ، وبها يطهر ضمير العبد من الخواء ، وقلبه من النفاق، وعمله من الرياء، ولسانه من الكذب ، وعينه من الخيانة، ونفسه من الظلم، فيصبح بإياك نعبد وإياك نستعين عبداً لله مخلصاً مبراً من الشرك نقياً من الوثنية ، معصوماً من نزغات الشيطان محفوظاً من فتنة الشهوات والشبهات.
(اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)
إن العبد أحوج ما يكون لطلب الهداية من ربه؛ لأن العبد وحده لا يستطيع أن يهتدي ولا يملك مفتاح الهداية ولا يعرف طريقها ولا يجيد هذا ولا يميز بين الحق والباطل والرشد والغي ما لم يهده ربه سواء السبيل فالذي يملك الهداية هو الله وحده لا هادي لمن اضل ولا مضل لمن هدى. وهو يهدي من يشاء رحمة وكرماً . ويضل من يشاء قضاء مبرماً سبق علمه أنه لا يهتدي. فوجب علي العبد أن يهلج بهذا الدعاء في كل ركعة من صلاته لتصبح المسألة حية في ضميره، سارية في دمه ، ماثلة نصب عينه، ليتذكر دائماً نعمة الهداية إلي صراط الله المستقيم، وهي أجل نعمة تسدى للعبد ، وأعظم مكرمة تمنح لهذا المخلوق، والهداية معرفة الحق الذي بعث به محمد صلي الله عليه وسلم. والعمل به والموت عليه والبذل لأجله والتضحية في سبيله والجهاد لدوام هذا الحق وخلوده وانتصاره وعلوه وعزته.
والصراط المستقيم هو طريق الله الواضح المبين الموصل إلي رضوانه وطاعته ومغفرته وجنته، وهو طريق بينه الله ودل عليه الرسل، وشهدت باستقامة الكتب، ووافقت علي السير فيه الفطرة، ومضي عليه موكب الأولياء، وضوعت به دماء الشهداء، وهو طريق واحد لا ثاني له. فريد لا مثيل له متميز لا شبيه له، وهو مستقيم أقرب موصل إلي الفوز والفلاح والنجاة، واسهل معبر إلي الأمن والسكينة والاطمئنان ، وايسر جسر إلي الرضوان والتوفيق، كل المسالك سواه مضطربة، كل الطرق ما عداه معوجة ، كل السبل غيره متلوية، وهذا الصراط المستقيم لا يهدي إليه إلا ولا يدل عليه إلا الرسل وأتباعهم ، ولا يسلكه إلا من سبقت له الحسنى، ولا يحيد عنه إلا من حقت عليه الغواية ، وكتبت عليه اللعنة ، وحاقت به الخطيئة ، وأوبقة شيطانه ونفسه وهواه.
وهذا الصراط المستقيم مجمل وتفصيل ، اما مجمله فهداية عامة لكل من سار علي هذا الصراط ومضي في هذا الطريق يريد النجاة من غضب الله ولفوز برضوانه، ومفصل هذا الصراط استقامة لا التفات فيها، وقيام تفاصيل الدين وشعائر الملة، وبذل النفس والنفيس لإعلاء كلمة الله وصرف العمر كله في العبودية، وإنفاق ساعات الزمن وأنفاس الوقت في مراسيم الطاعة صلاة وصياماً وزكاة وحجاً وجهاداً وإنابة ومحبة وخشية وتوبة ورهبة ورغبة، مع المحافظة علي سنن المعصوم، والتحلي بأخلاق القدوة الحسنة والتأسي بصفات الإمام الأعظم صلي الله عليه وسلم .
وهذا الصراط المستقيم محطاته ومعالمه ومنازله موصوفة في كتاب الله العظيم وسنة النبي الكريم. بل إن الرسالة كلها والشريعة أجمعها شرح لهذا الصراط المستقيم، والوحي اوله وآخره توضيح وبسط لهذا الصراط المستقيم، والله جل في علاه علي صراط مستقيم ، والرسول النبي الأمي يهدي إلي صراط مستقيم. والقرآن الكتاب المعجزة يهدي إلي الصراط المستقيم.
فجملة أهدنا الصراط المستقيم كلية من كليات الشريعة، وقاعدة من قواعد الإيمان، واصل من أصول الدين، ولهذه الآية وإخواتها عظم قدر سورة الفاتحة، فكانت من السبع المثاني، والشافية والكافية وأم القرآن، وافتتح بها المصحف، وفرضت في الصلاة ، وجمعت فيها الملة، وشفت بإذن الله من الأمراض.
فكم من لديغ للشيطان ذاق ترياقها فتعافي ، وكم من جريح من أسهم الغواية عب من تميزها فتشافي، اللهم أهدنا صراطك المستقيم حتى نعبره إليك لنلقاك وأنت راض عنا، محسن إلينا، لطيف بنا، إنك تهدي من تشاء غلي صراط مستقيم.
قوله: (إِنَّ شَانِئَكَ)
هجوم أدبي كاسح، وتهديه رباني ماحق ساحق، لأعداء محمد صلي الله عليه وسلم وخصومه ومبغضيه، وهذا ذب عن شخصه الكريم ، ودفاع عن مقامه العظيم، فإذا كان المدافع الحامي والناصر هو الله فلتقر عينه صلي الله عليه وسلم بهذا النصر والدفاع والولاية، وشانئه صلي الله عليه وسلم لا يكون إلا كافراً مارداً حقيراً خسيساً؛ لأنه ما أبغضه إلا بعد ما أصابه بخذلان ، وكتب عليه الخسران، وأراد له الهوان،وإلا فإنسان مثل الرسول صلي الله عليه وسلم يوجب النقل والعقل حبه، إذ لو كان الطهر جسداً كان جسده صلي الله عليه وسلم ولو كان النبل والسمو صورة لكان صورته بأبي هو وأمي، فهو منتهي الفضيلة، وغاية الخصال الجميلة، والمستحق للوسيلة ، وصاحب الدرجة العالية الرفيعة الجليلة، فكان الواجب علي من عنده ذرة رأي، وبصيص من نور ، إذا كان يحترم عقله أن يحب الإمام العظيم لما جمع الله فيه من الفضائل ، ولما حازه من مناقب، ولكن واحسرتاه، علي تلك العقول العفنة، والنفوس المتدثرة بجلباب الخزي، القابعة في سراديب البغي، الراتعة في مهاوي الرذيلة ، كيف عادته مع كماله البشري، ومقامه السامي، فكأنه المقصود بقول الشاعر:
أعادي علي ما يوجب الحب للفتي
وأهدأ والأفكار في تجول
وقول الآخر:
إذا محـــاسني الآتي أدل بها
كانت ذنوبي فقل لي كيف أعتذر
( هُوَ الْأَبْتَرُ)
أي مقطوع البركة والنفع والأثر ، فكل من عاداك لا خير فيه ولا منفعة من وراءه، أما أنت فأنت المبارك أينما كنت، اليمن معك، السعادة موكبك ، الرضا راحلتك، البركة تحفك، السكينة تغشاك، الرحمة تتنزل عليك، الهدي حيثما كنت، النور أينما يممت، وأعداؤه صلي الله عليه وسلم قالوا: إنه أبتر لا نسل له ولا ولد، فجاء الجواب مرغماً لتلك الأنوف ، واضعاً لتلك الرؤوس، محبطاً لتلك النفوس، فكأنه يقول لهم: كيف يكون أبتر وقد أصلح الله علي يديه الأمم، وهدي بنوره الشعوب، وأخرج برسالته الناس من الظلمات إلي النور؟
كيف يكون أبتر والعالم أشرق علي أنواره، والكون استيقظ علي دعوته، والدنيا استبشرت بقدومه؟
كيف يكون أبتر والمساجد تردد بالوحي الذي جاء به، والحديث الذي تكلم به، والمآذن تعلن مبادئه، والمنابر تذيع تعاليمه، والجامعات تدرس وثيقته الربانية؟
كيف يكون ابتر والخلفاء الراشدون نهلوا من علمه، والشهداء اقتبسوا من شجاعته، والعلماء شربوا من معين نبوته، والأولياء استضاؤا بنور ولايته؟
كيف يكون أبتر وقد طبق ميراثه المعمورة، وهزت دعوته الأرض، ودخلت كلمته كل بيت، فذكره مرفوع، وفضله غير مدفوع، ووزره موضوع.
كيف يكون أبتر وكلما قرأ قارئ كتاب الله فلمحمد صلي الله عليه وسلم مثل أجره ؛ لأنه هو الذي دل علي علي الخير ن وكلما صليلا مصل فله مثل اجر صلاته؛ لأنه هو الذي علمنا الصلاة؛ (( صلوا كما رأيتموني اصلي)) وكلما حج حاج فله صلي الله عليه وسلم مثل حجه: لأنه عرفنا تلك المناسك: خذو عني مناسككم)).
بل الأبتر الذي عاداه وحاربه وهجر سنته وأعرض عن هداه.
فهذا الذي ثقطع الله من الأرض بركته، وعطل نفعه، واطفا نوره وطبع علي قلبه، وشتت شمله، وهتك ستره، فكلامه لغو من القول ، وزور من الحديث وعمله رجس مردود عليه، واثره فاسد، وسعيه في تباب.
وانظر لكل من ناصب هذا الرسول الأكرم صلي الله عليه وسلم العداء، أو أعرض عن شرعه أو شيء مما بعث به كيف يصيبه من الخذلان والمقت والسخط والهوان بقدر إعراضه ومحاربته وعدائه.
فالملحد مقلوب الإرادة ، مطموس البصيرة، مخذول تائه منبوذ، والمبتدع زائغ ضال منحرف، والفاسق مظلم القلب في حجب المعصية، وفي أقبية الانحراف.
ولك أن تري سموه صلي الله عليه وسلم وعلو قدره ومن تبعه يوم تري الناس وحملة حديثه وآثاره وهم في مجد خالد من الآثر الطيب، والذكر الحسن، والثناء العاطر من حسن المصير، وجميل المنقلب، وطيب الإقامة في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
ثم انظر للفلاسفة المعرضين عن السنة مع ما هم فيه من الشبه والقلق والحيرة والاضطراب والندم والأسف علي تصرم العمر في الضياع وذهاب الزمن في اللغو وشتات القلب في أودية الأوهام.
فهذا الإمام المعصوم صلي الله عليه وسلم معه النجاة ، وسنته سفينة نوح من ركب فيها نجا ومن تخلف عنها هلكن وهو الذي يدور معه الحق حيثما دار، وكلامه حجة علي كل متكلم من البشر من بعده، وليس لأحد من الناس حجة علي كلامه، وكلنا راد ومردود عليه إلا هو صلي الله عليه وسلم : لأنه لا ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحي. زكي الله سمعه وبصره وقلبه، ونفي عنه الضلال وحصنه من الغي، وسلمه من الهوي، وحماه من الزيغ ، وصانه من الانحراف وعصمة من الفتنة، فكل قلب لم يبصر نوره فهو قلب مغضوب عليه، وكل أرض لم تشرق عليها شمسه فهي أرض مشؤومة، وكل نفس لم ترحب بهداه فهي نفس ملعونة ، فهو المعصوم من الخطأ ، المبرأ من العيب ، السليم من الحيف ، النقي من الدنس ، المنزه عن موارد التهم . على قوله توزن الأقوال ، وعلى فعله تقاس الأفعال ، وعلى حاله تعرض الأحوال .
وقد قصد الكفار بقولهم : إنه أبتر ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنه لا ولد له ، فإذا مات انقطع عقبه ، والأبتر عند العرب هو من لا نسل له ولا عقب ، فرد الله عليهم وأخبر أن من عاداه هو الابتر حقيقة .
وفي هذه السورة ثلاثة آيات : فالأولى عن الله عز وجل وعطائه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والثانية للرسول صلى الله عليه وسلم ، والواجب عليه في مقابلة هذا العطاء وهي الصلاة والنحر ، والثالثة لأعدائه صلى الله عليه وسلم وهو البتر والقطع من الخير والبركة والنفع .
فالأولى عطية والثانية واجب عليه ، والثالثة دفاع عنه .
وفي السورة تكريم الله لرسول صلى الله عليه وسلم ، وإثبات الكوثر له كما صحت به الأحاديث أيضا ، والدفاع عنه وجواز سب الكفار وشتمه وزجره ليرتدع .
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ)
حسبك الله يكفيك من كل ما أهمك فيحفظك في الأزمات ، ويرعاك في الملمات ، ويحميك في المدلهمات ، فلا تخش ولا تخف ولا تحزن ولا تقلق . فمن تخاف ونحن معك ، ومن تخشى ولدينا نصرك ، ومن ترهب وعندنا عزك فيكفيك : أن حسبك الله .
حسبك الله فهو ناصرك على كل عدو ، ومظهرك على كل خصم ، ومؤيدك في كل أمر ، يعطيك إذا سألت ، ويغفر لك إذا استغفرت ، ويزيدك إذا شكرت ، ويذكرك إذا ذكرت ، وينصرك إذا حاربت ، ويوفقك إذا حكمت .
حسبك الله فيمنحك العز بلا عشيرة ، والغنى بلا مال ، والحفظ بلا حرس ، فأنت المظفر لأن الله حسبك ، وأنت المنصور لأن الله حسبك ، وأنت الموفق لأن الله حسبك ، فلا تخاف من عين حاسد ولا من كيد كائد ، ولا من مكر ماكر ، ولا من خبث كافر ، ولا من حيلة فاجر ؛ لأن الله حسبك إذا سمعت صولة الباطل ، ودعاية الشر ، وجلبة الخصوم ، ووعيد اليهود ، وتربص المنافقين ، وشماتة الحاسدين ، فاثبت لأن حسبك الله ، إذا ولى الزمان ، وجفا الإخوان وأعرض القريب ، وشمت العدو ، وضعفت النفس ، وأبطأ الفرج ، فاثبت لأن حسبك الله . إذا داهمتك المصائب ، ونازلتك الخطوب ، وحفت بك المكاره ، وأحاطت بك الكوارث فاثبت لأن حسبك الله ، لا تلتفت إلى أحد من الناس ، ولا تدعو أحد من البشر ولا تتجه لكائن من كان غير الله ؛ لأن حسبك الله .
إذا ألم بك مرض ، وأرهقك دين ، وأحل بك فقر ، أو عرضت لك حاجة فلا تحزن ؛ لأن حسبك الله . إذا أبطأ النصر ، وتأخر الفتح ، واشتد الكرب ، وثقل الحمل ، وادلهم الخطب فلا تحزن ؛ لأن حسبك الله ، أنت محفوظ لأنك بأعيننا ، وأنت عبدنا المجتبى ونبينا المصطفى .
حسبك الله يا محمد ، فهو الذي شرح لك صدرك ، ووضع عنك وزرك ، ورفع ذكرك ، وأصلح أمرك ، وأعلى قدرك ، أغناك من الفقر ، وهداك من الضلالة ، أمنك من الخوف ، أعزك بعد الذلة ، أيدك بعد الضعف .
حسبك الله يا محمد ، فهو الذي حفظك في الغار ، ونصرك في بدر ، وثبتك في أحد ، وفتح لك مكة ، وأعزك في كل موطن ، وأعانك في كل موقف .
( لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)
هذه الكلمة الجميلة الشجاعة قالها صلى الله عليه وسلم وهو في الغار مع صاحبه أبي بكر الصديق وقد أحاط بهم الكفار قالها قوية في حزم ، صادقة في عزم ، صارمة في جزم : لا تحزن إن الله معنا ، فما دام الله معنا فلم الحزن ، ولم الخوف ولم القلق ؟ اسكن ، اثبت ، اهدأ ، اطمئن ؛ لأن الله معنا .
لا نغلب ، لا نهزم ، لا نضل ، لا نضيع ، لا نيأس ، لا نقنط ؛ لأن الله معنا ، النصر حليفنا ، الفرج رفيقنا ، الفتح صاحبنا ، الفوز غايتنا ، الفلاح نهايتنا ؛ لأن الله معنا .
لو وقفت الدنيا كل الدنيا في وجوهنا ، لو حاربنا البشر كل البشر ، ونازلنا كل من على وجه الأرض فلا تحزن لأن الله معنا .
من أقوى منا قلبا ، من أهدى منا نهجا ، من أجل منا مبدأ ، من أحسن منا مسيرة ، من أرفع منا قدرا ، لأن الله معنا .
ما اضعف عدونا ، ما أذل خصمنا ، ما أحقر من حاربنا ، ما أجبن من قاتلنا لأن الله معنا .
لن نقصد بشرا ، لن نلتجئ إلى عبد ، لن ندعو إنسانا ، لن نخاف مخلوقا لأن الله معنا .
نحن أقوى عدة ، وأمضى سلاحا ، وأثبت جنابا ، وأقوم نهجا ؛ لأن الله معنا .
نحن الأكثرون الأكرمون الأعلون الأعزون المنصورون ؛ لأن الله معنا .
يا أبا بكر اهجر همك ، وأرح غمك ، واطرد حزنك ، وأزل يأسك ؛ لأن الله معنا .
يا أبا بكر ، ارفع رأسك ، وهدئ من روعك ، وأرح قلبك لأن الله معنا .
يا أبا بكر ، أبشر بالفوز ، وانتظر النصر وترقب الفتح ؛ لأن الله معنا .
غدا سوف تعلو رسالتنا ، وتظهر دعوتنا ، وتسمع كلمتنا ؛ لأن الله معنا .
غدا سوف نسمع أهل الأرض روعة الأذان ، وكلام الرحمن ، ونغمة القرآن ؛ لأن الله معنا .
غدا سوف نخرج الإنسانية ، ونحرر البشرية من عبودية الوثنية ؛ لأن الله معنا .
هذه كلمات قالها رسولنا صلى الله عليه وسلم لأبي بكر الصديق وهما في الغار وقد أحاط بهما الكفار من كل ناحية ، وطوقهم الموت من كل مكان ، وأغلقت الأبواب إلا باب واحد ، وقطعت الحبال إلا حبل واحد ، وعز الصديق والقريب ، وغاب الصاحب والحبيب ، وعجزت الأسرة والقبيلة ، وبقي الواحد الأحد الفرد الصمد ، حينها قالها عليه الصلاة والسلام : ( لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) .
لا تحزن إن الله معنا ، إذا معنا الركن الذي لا يضام ، والقوة التي لا ترام ، والعزة التي لا تغلب ، وما دام الله معنا فممن نخاف وممن تخشى وممن ترهب ؟ فهو القوي العزيز ، وهم الضعفاء الأذلاء ، ما دام الله معنا فلا تأسف على قلة من عدد ، أو عوز من عتاد ، أو فقر من مال ، أو تخاذل من أنصار ، إن الله معنا وكفى ، معنا بحفظه ورعايته ، بقوته وجبرته ، بكفايته وعنايته ، بدفاعه وبطشه ، فلا تحزن إذا تلاها الخادم يهدد الناس بقوته سيده من ملوك الأرض فيخافون ويذعنون ، فكيف برب الناس ملك الناس إله الناس ، أ\إن أعظم كلمة في الخطب وأشرف جملة في الكرب هي هذه الكلمة الصادقة الساطعة : لا تحزن إن الله معنا .
وسر هذه الكلمة في مدلولها وعظمتها في معناها يوم تذكر معية ـ الله عز وجل ـ وهو الذي بيده مقاليد الحكم ، ورقاب العباد ، ومقادير الخلق ، وأرزق الكائنات ، وهذه الكلمة في زمانها الذي قيلت فيه وفي جوها المخيف المرعب وفي مكانها المزلزل المذهل لها طعم آخر وقصة أخرى ، لقد جاءت في لحظة طوق فيها على المعصوم وصاحبه في الغار ، وأغلق الباب وأحاط الأعداء بكل جانب ، وسلوا سيوف الموت ، يريدون أشرف مهجة خلقت ، وأزكى نفس وجدت ، وأطهر روح خلقت ، فما الحيلة ؟
الحيلة رفع ملف القضية وأوراق الفاجعة وسجل الكارثة إلى من على العرش استوى ، ليقضي فيها بما يشاء ، ولكن صاحب الرسالة ذا القلب المشرق الفياض أرسل لصاحبه أبي بكر رسالة رقيقة هادئة باسمه حانيه نصها: لا تحزن إن الله معنا، فصار الحزن سروراً والهم فرجاً، والغم راحة ، والكرب فرجاً، والهزيمة نصراً عزيزاً.
ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت علي
خير البرية لم تنسج ولم تحم
عناية الله أغنت من مضاعفة
من الدروع وعن عال من الأطم
وكلمة ( لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)، يحتاجها المسلم كل ىن: فإذا تكاثف همك وكثر غمك وتضاعف حزنك فقل لقبلك: ) لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)وإذا ركبك الدين، واضناك الفقر، وشواك العدم، فقل لقبلك: ) لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)، وإذا هزتك الأزمان، وطوقتك الحوادث، وحلت بك الكربات، فقل لقلبك: إن الله معنا.
(وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)
والله إنك لعظيم الأخلاق ، كريم السجايا، مهذب الطبع، نقي الفطرة، طيب الخصال، عظيم الخلال.
والله إنك جم الحياء، حي العاطفة، جميل السيرة، طاهر السريرة، نقي الضمير، عفيف الجيب، سليم الصدر.
والله إنك قمة الفضائل، ومنبع الجلود ومطلع الخير وغاية الإحسان، ونهاية ما يصبو إليه الإنسان، وذروة ما تتوق إليه الأنفس وتمح إليه الأرواح.
(وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) يظلمونك ، يؤذونك فتغفر، يشتمومك فتحلم ، يسبونك فتعفو، يجفونك فتصفح، تعطي من منعك، تصل من قطعك، تعفو عمن ظلمك.
(وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) .. يحبك الملك والملوك، والصغير والكبير ، والرجل والمرأة ، والغني والفقير، والقريب والبعيد؛ لأنك ملكت القلوب بعطفك، وأسرت الأرواح بفضلك، وطوقت الأعناق بكرمك، وسبيت الأنفس بجودك، وكسبت الناس بعطفك.
(وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) هذبك الوحي، وعلمك جبريل ، وهداك ربك، وصاحبتك العناية، ورافقتك الرعاية، وحالفك التوفيق.
(وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) البسمة علي محياك، البشر علي طلعتك، النور علي جبينك، الحب في قلبك، الجود في يدك، البركة فيك،والفوز معك.
من زار بابك لم تبرح جوارحه
تروي أحاديث ما أوليت من منن
فالعين عن قرة والكف عن صلة
والقلب عن جابر والسمع عن حسن
(وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) لا تكذب ولو أن السيف علي راسك، ولا تخون ولو حزنت الدنيا، ولا تغدر ولو أعطيت الملك؛ لأنك نبي معصوم ، وإمام قدوة، وإسوة حسنة.
(وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) صادق ولو قابلتك المنايا ، شجاع ولو قاتلتك الأسود، جواد ولو سئلت كل ما تملك، فأنت المثال الراقي والرمز السامي، وأنت الصفوة المجتبي، والنبي المختار، والرسول المصطفي.
(وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) سبقت العالم ديانة وأمانة وصيانة ورزانة، وتفوقت علي الكل علماً وحلماً وكرماً وشجاعة وتضحية، وعلوت علي الجميع صبراً وثباتاً وعلماً وعملاً وصلاحاً واستقامة.
(وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) الطهر أنت، والصدق ما تقوله، والحق ما تدعو إليه، والعدل ما تحكم به، والهدي ما أنت عليه، لو كان الصلاح رجلاً لكان في ثباتك، ولو كان البر إنساناً لكان في هيكلك، ولو أن الفضيلة بشر لحل فيك.
(وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) آذوك ـ بأبي أنت ـ وشتموك ـ فديتك ـ وأخرجوك وقاتلوك وكذبوك ـ بنفسي أنت ـ ثم ناديت: اللهم أغفر لقومي فإنهم لا يعلمون، جرحوك وأدموا عقبيك، وشجوا رأسك، وكسروا ثنيتك، وقتلوا أصحابك، ثم قلت: اذهبوا فأنتم الطلقاء.
إن كنت احببيت بعد الله مثلك في
بدو وحضر ومن عرب ومن عجم
فلا اشتفي ناظري من منظر حسن
ولا تفوه بالقول السديد فمي
(مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ)
لست مجنوناً كما قال أعداؤك ، لكن عندك دواء المجانين، فالمجنون الطائش السفيه التافه من خالفك وعصاك وحاربك وجفاك، والمخذول الأحمق من عصاك ، والتائه المأفون من نادك، والمغبون الخاسر من اختار سبيلاً غير سبيلك.
(مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) وكيف يكون ذلك وأنت أكملهم عقلاً، وأتمهم رشداً ، واسدهم رأياً، وأعظمهم حكمة، ويهدي العقل، وينير الطريق.
لست مجنوناً لأنك علي هدى من الله، وعلي نور من ربك، وعلي ثقة من منهجك، وعلي بينة من دينك، وعلي رشد من دعوتك، صانك الله من الجنون، بل عندك كل العقل، وأكمل الرشد، وأتم الرأي، وأحسن البصيرة، فأنت الذي يهتدي بك العقلاء، ويستضيء بحكمتك الحكماء، ويقتدي بك الراشدون المهديون.
إذا نحن أولجنا وأنت إمامنا
كفى بالمطايا طيب ذكراك هاديا
كذب وأفتري من وصفك بالجنون وقد ملأت الأرض حكمة، والدنيا رشداً ، والعالم عدلاً، فأين يوجد الرشد إلا عندك، وأين تكون الحكمة إلا لديك، وأين تحل البركة إلا معك.
أنت أعقل العقلاء ، وأفضل النبلاء، وأجل الحكماء، كيف يكون مجنوناً وقد قدم للبشرية أحسن تراث علي وجه الأرض، وأهدي للعالم أجل تركة عرفها الناس، وأعطي الكون أبرك رسالة عرفها العقلاء.
أخوك عيسي دعا ميتا فقام له
وأنت أحييت أجيالاً من الرمم
( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)
أنت يا محمد مهنتك الهداية ، ووظيفتك الدلالة، وعملك الإصلاح ، أنت تهدي إلي صراط مستقيم؛ لأنك تزيل الشبهات، وتطرد الغواية، وتذهب الضلالة، وتمحو الباطل، وتشيد الحق، والعدل والخير.
( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)، فمن أراد السعادة فليتعبك، ومن أحب الفلاح فليقتد بك، ومن رغب في النجاة فليهتد بهداك.
أحسن صلاة صلاتك، وأتم صيام صيامك، وأكمل حج حجتك، وأزكي صدقة صدقتك، وأعظم ذكر ذكرك لربك.
( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) من ركب سفينة هدايتك نجا، من دخل دار دعوتك أمن، من تمسك بحبل رسالتك سلم، فمن تبعك ما ذل وما ضل وما قل، وكيف يذل والعز معك، وكيف يضل وكل الهداية لديك، وكيف يزيل والرشد كله عندك، وكيف يقل والله مؤيدك وناصرك وحافظك.
( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) لأنك وافقت الفطرة، وجئت بحنيفية سمحة، وشريعة غراء، وملة كاملة، ودين تام.
هديت العقل من الزيغ ، وطهرت القلب من الربية، وغسلت الضمير من الخيانة، وأخرجت الأمة من الظلام، وحررت البشر من الطاغوت.
( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) فكلامك هدى، وحالك وفعلك هدى، ومذهبك هدى، فأنت الهادي إلي الله علي طريق الخير لكل البشر، الداعي إلي الجنة.
(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّك)
أد الرسالة كاملة كما سمعتها كاملة، بلغها تامة مثلما حملتها تامة، لا تنقص حرفاً ولا تحذف كلمة، ولا تغفل جملة.
بلغ ما أنزل إليك فهي أمانة في عنقك سوف تسأل عنها، فبلغها بنصها وروحها ومضمونها.
بلغ ما أنزل إليك من الوحي العظيم، والهدي المستقيم، والشريعة المطهرة، فأنت مبلغ فحسب؛ لا تزد في الرسالة حرفاً، لا تضف من عندك علي المتن، لا تدخل شيئاً في المضمون ، لأنك مرسل فحسب، مبعوث ليس إلا، مكلف ببلاغ، مسؤول من مهمة، مثلما سمعت بلغ، ومثلما حملت فأد.
بلغ ما أنزل إليك، عرف من عرف وأنكر من أنكر، استجاب من أستجاب وأعرض من أعرض، وأقبل من أقبل.
بلغ ما أنزل إليك، بلغ الكل، وادع الجميع، وانصح الكبراء والمستضعفين،السادة والعبيد، الإنس والجن، الرجال والنساء، الأغنياء والفقراء، الكبار والصغار.
بلغ ما أنزل إليك، فلا ترهب الأعداء، ولا تخف الخصوم، ولا تخش الكفار، ولا يهولك سيف مصلت، أو رمح مشرع، أو منية كالحة، أو موت عابس، أو جيش مدجج، أو حركة حامية.
بلغ ما أنزل إليك فلا يغر بك مال، ولا يعجبك منصب، ولا يزدهيك جاه، ولا تغرك دنيا، ولا يخدعك متاع، ولا يردك تحرج.
وشب طفل الهدي المحبوب متشحا
بالخير مترزراً بالنور والنار
هي كفه شعلة تهدي وفي دمه
عقيدة تتحدى كل جبار
وفي ملامحه وعد وفي يده
عزائم صاغها من قدرة الباري
( وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ )
إذا لم تؤد الرسالة كاملة فكأنك ما فعلت شيئاً، وإن لم توصلها تامة فكأنك ما قمت بها حق القيام، ولو كتمت منها مقالة أو عطلت منها نصاً أو أهمت منها عبارة فما بلغت رسالة الله ما أديت أمانة الله، نريد منك أن تبلغ رسالتنا للناس كما ألقيت عليك، وكما نزل بها جبريل ، وكما وعاها قلبك.
( وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاس)
بلغ الرسالة كاملة ولا تخف أحداً،وكيف تخاف من أحد ونحن معك نحفظك ونمنعك ونحميك ونذب عنك، لن يقتلك أحد لأن الله يعصمك من الناس، ولن يطفئ نورك أحد لأن الله يعصمك من الناس، ولن يعطل مسيرتك بشر لأن الله يعصمك من الناس، وقل كلمتك صريحة شجاعة قوية، لأن الله يعصمك من الناس، اشرح دعوتك، وابسط رسالتك، وأرفع صوتك، وأعلن منهجك، وما عليك؛ لأن الله يعصمك من الناس.
كل قوة في الأرض لن تستطيع إليك، كل جبروت في الدنيا لا يهزمك، كل طاغية في المعمورة لن يقهرك، لأن الله يعصمك من الناس.
(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ)
أما شرحنا لك صدرك، فصار وسيعاً فسيحاً لا ضيق فيه ولا حرج ولا هم ولا غم ولا حزن. بل ملأناه لك نوراً وسروراً وحبوراً.
أما شرحنا لك صدرك ملأناه حكمه ورحمه وإيماناً وبراً وإحساناً.
شرحنا لك صدرك، فوسعت أخلاق الناس، وعفوت عن تقصيرهم وصفحت عن خطئهم، وسترت عيوبهم، وحملت علي سفيههم، وأعرضت عن جاهلهم، ورحمت ضعيفهم.
شرحنا لك صدرك فكنت كالغيث جوداً ، وكالبحر كرماً، وكالنسيم لطفاً، تعطي السائل، وتمنح الراغب ، وتكرم القاصد ، وتجود علي المؤمل.
شرحنا لك صدرك فصار برداً وسلاماً يطفئ الكلمة الجافية ، ويبرد العبارة الجارحة، فإذا ليعفو والحلم والصفح والغفران.
شرحنا لك صدرك فصبرت على جفاء الأعراب، ونيل السفهاء وعجرفة الجبابرة، وتطاول التافهين، وإعراض المتكبرين، ومقت الحسدة، وسهام الشامتين، وتهجم القرابة.
شرحنا لك صدرك فكنت بساماً في الأزمات، ضحاكاً في الملمات، مسروراً وأنت في عين العاصفة، مطمئناً وأنت في جفن الردى، تداهمك وأنت ساكن، وتلتفت بك الحوادث وأنت ثابت؛ لأنك مشروح الصدر ، عامر الفؤاد، حتى النفس.
شرحنا لك صدرك فلم تكن فظاً قاسياً غليظاً جافياً، بل كنت رحمة وسلاماً وبراً وحناناً ولطفاً ، فالحلم يطلب منك، والجود يتعلم من سيرتك، والعفو يؤخذ من ديوانك.
(وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ)
حططنا عنك خطاياك، وغسلناك من آثار الذنوب.
فأنت مغفور لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، وأنت الآن نقي طاهر من كل مكان وخطيئة، ذنبك مغفور، وسعيك مشكور، وعملك مبرور، وأنت في كل شأن من شؤونك مأجور ن هنيئاً لك هذا الغفران، وكوبي لك هذا الفوز، وقرة عين لك هذا الفلاح.
(الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ)
أثقل هذا الوزر كاهلك، واضني ظهرك حتى كاد ينقضه ويوهنه، فالآن أذهبنا هذا الثقل ن وأزلنا هذه التبعة، وأعفيناك من هذا الخطب، فاسعد بهذه البشرى، وتقبل هذا العطاء، وافرح بهذا التفضيل.
(وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ)
لا اذكر إلا تذكر معي، يقرن بذكري في الأذان والصلاة والخطب والمواعظ ، فهل تريد شرفاً فوق هذا؟
يذكرك كل مصل، وكل مسبح، وكل حاج ، وكل خطيب، فهل تطلب مجداً أعلي من هذا؟
أنت مذكور في التوراة والإنجيل، منوه باسمك في الصحف الأولي والدواوين السابقة، اسمك يشاد به في النوادي، ويتلي في الحواضر والبوادي. ويمدح في المحافل، ويكرر في المجامع.
(وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) فصار في الأرض مسير الشمس، وعبر القارات عبور الريح، وسافر في الدنيا سفر الضوء، فكل مدينة تدري بك، وكل بلد يسمع بك، وكل قرية تسأل عنك.
(وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) فصرت حديث الركب، وقصة السمر، وخبر المجالس، وقضية القضايا، والنبأ العظيم في الحياة.
(وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) فما نسي مع الأيام، وما محي مع الأعوام، وما شطب من قائمة الخلود، وما نسخ من ديوان التاريخ، وما أغفل العظماء ذاتك، فمن ارتفع ذكره من العباد عندنا فبسبب اتباعك، ومن حفظ اسمه فبسبب الاقتداء بك.
ذهبت آثار الدول وبقيت آثارك، ومحيت آثار السلاطين وبقيت مآثرك، وزالت أمجاد الملوك وخلد مجدك، فليس في البشر اشرح منك صدراً، ولا أرفع منك ذكراً، ولا أعظم منك قدراً، ولا أحسن منك آثراً، ولا أجمل منك سيراً.
إذا تشهد متشهد ذكرك معنا، وإذا تهجد سماك معنا، وإذا خطب خطيب نوه بك معنا، فاحمد ربك لأننا رفعنا لك ذكرك.
(فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً)
إذا ضاقت عليك السبل ، وبارت الحيل، وتقطعت الحبال، وضاق الحال فأعلم ان الفرج قريب، وأن اليسر حاصل.
لا تحزن فإن بعد الفقر غني، وبعد المرض شفاء، وبعد البلوى عافية، وبعد الضيق سعة، وبعد الشدة فرجاً.
سوف يصلك اليسر أنت وأتباعك فترزقون وتنصرون.
إنها سنة ثابتة وقاعدة مضطردة ان مع كل عسر يسراًن بعد الليل فجر صادق، وخلف جبل المشقة سهل الراحة، وراء صحراء الضيق روضة خضراء من السعة، إذا اشتدت الحبل انقطع، وإذا اكتمل الخطب ارتفع، سوف يصل الغائب ويشفي المريض، ويعافي المبتلي، ويفك المحبوس، ويغتني الفقير، ويشبع الجائع، ويروى الظمآن، ويسر المهموم ، وسيجعل الله بعد عسر يسراً.
وهذه السورة نزلت عليه صلي الله عليه وسلم وهو في حال من الضيق وتكالب الأعداء، واجتماع الخصوم، وإعراض الناس، وقلة الناصر وتعاظم المكر، وكثرة الكيد، فكان لابد له من عزاء وسلوة وتطمين وترويح، فنزلت هذه الكلمات المباركات له ولأتباعه إلى يوم القيامة صادقاً ن وبشري طيبة، وجائزة متقلبة:
اشــــتـــدي أزمــــة تنفـــرجي
قـــــد آذن ليلك بالبلج
(فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ)
إذا انتهيت من أعمالك الدنيوية وأشغالك الشخصية، فانصب لنا بالعبادة وتوجه لنا بالطاعة، واكثر من ذكرنا ودعائنا.
إذا فرغت من الناس وقضاياهم وأسئلتهم فقم في محراب عظمتنا، وانطرح علي بابنا، واقرب منا، ومرغ جبينك لنا، لتلقي الفوز والفلاح والأمن والنجاة.
إذا فرغت من الأهل والولد والقريب والصاحب فجعل لك وقتاً معنا ، ارفع فيه سؤالك ، اعرض فيه حاجتك، أكثر فيه دعاءك، ادعنا وسبحنا واطلبنا واستغفرنا واشكرنا واذكرنا.
إذا فرغت من الأحكام والقضاء والموعظة والفتيا والتعليم والإرشاد والجهاد والنصيحة فتعال لتزداد من قوتنا قوة، ومن مددنا عوناً، ومن رزقنا زاداً، ومن فتحنا بصيرة وذخيرة.
نحن أولي بك منك، وأحق من غيرنا، ويا له من توجيه له ولأتباعه عليه الصلاة والسلام في صرف الفراغ في العبودية، وملأ هذا الزمن بذكره وشكره جل في علاه ليحصل المقصود من الرضا والسكينة والفرج والعاقبة الحسنة، وصلاح الحال والمال، وعمارة الدنيا والآخرة.
(وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ)
إلى ربك وحده فارغب ن ولا ترغب من غيره شيئاً، وإليه وحده فاتجه وعليه فتوكل، وفيه فأمل ، فإن الرغبة والرهبة لا تكون إلا إليه؛ لأنه صاحب الثواب لمن أطاعهن والعقاب لمن عصاه.
والرغائب الجليلة لا يملكها إلا الله، فعنده مفاتح الخزائن، ومقاليد الأمور، فهو أهل ان يدعي وان يسأل وأن يؤمل وأن يقصد جل في علاه:
إليك وإلا لا تشـــد الركـــائب
ومنك وإلا فـــالمؤمل خــــائب
وفيـــك وإلا فــالغرام مــضيع
وعنك وإلا فـــالمحدث كــــاذب
وقد تنزلت هذه الكلمات على رسولنا صلي الله عليه وسلم في فترات عصيبة، وفي لحظات حاسمة عاشها صلي الله عليه وسلم وتجرع غصصها وحسا مرراتها.
(إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً)
لقد فتحنا لك يا محمد فتحاً بيناً ظاهراً مباركاً، فتحنا لك القلوب فغرست بها الإيمان، وفتحنا لك الضمائر فبينت فيها الفضيلة، وفتحنا لك الصدور فرفعت فيها الحق، وفتحنا لك البلدان فنشرت بدعوتك القلوب الغلف والعيون العمي، والآذان الصم، واسمعنا رسالتك الثقلينز
فتحنا لك فتدفق العلم النافع من لسانك ،وفاض الهدى المبارك من قلبك، وسح الجود من يمينك.
وفتحنا لك فحزت الغنائم وقسمتها، وجمعت الأرزاق ووزعتها، وحصلت على الأموال وأنفقتها.
وفتحنا لك باب العلم وأنت الأمي الذي ما قرا وما كتب فصار العلماء ينهلون من بحار علمك؛ ) وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً).
وفتحنا لك القلاع والمدن والقرى، فهيمن دينك، وارتفعت رايتك، وانتصرت دعوتك، فأنت مفتوح عليك في كل خير وبر وإحسان ونصر وتوفيق.
وفتحنا لك خيبر فسدت اليهود، وأهنت إخوان الخنازير والقرود، ورفعت لك البنود، وأطاعتك الجنود.
وفتحنا لك مكة، فرفعت بها كلمة الحق، وبنيت بها صرح الهدى، وطهرتها من رجس الأوثان ، ونجاسة الأصنام، وعبث الأزلام.
(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ )
(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ) فلا تشرك معه في عبوديته أحداً، ولا تدعو من دونه إلهاً ، بل تصرف له عبادتك، وتخلص له طاعتك، وتوحد قصدك له ومسألتك ودعائك. فإذا سألت فاسال الله . وإذا استعنت فأستعن بالله، فلا يستحق العبادة إلا هو، ولا يكشف الضر غيره، ولا يجيب دعوة المضطر سواه.
(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ) هو أحق من شكر، وأعظم من ذكر، وأراف من ملك، وأجود من أعطي ، وأحلم من قدر، وأقوي من أخذ،وأجل من قصد، وأكرم من ابتغي، فلا إله يدعي سواه، ولا رب يطاع غيره، فالواجب أن يعبد وأن يوحد وأن يخاف وأن يطاع وان يرهب وأن يخشي وأن يحب.
(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ) المتفرد بالجمال والكمال والجلال خلق الخلق ليعبدوه، وأوجد الإنس والجن ليوحدوه، وأنشأ البرية ليطيعوه، فمن أطاعه فاز برضوانه، ومن أحبه نال قربه، ومن خافه أمن عذاببه، ومن عظمه أكرمه، ومن عصاه أدبه، ومن حاربه خذله،يذكر من ذكره، ويزيد من شكره، ويذل من كفر ، له الحكم وإليه ترجعون.
(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ )فأخلص له العبادة؛ لأنه لا يقبل الشرك، وفوض غليه الأمر؛ لأنه الكافي القوي ، واسأله فهو الغني،وخف عذابه لأنه شديد، وأحذر أخذه لأنه أليم، ولا تتعدي حدوده لأنه يغار، ولا تحارب أولياءه لأنه ينتقم، واستغفره فهو واسع المغفرة، وأطمع من فضله لأنه كريم، ولذ بجنابه فهناك الأمن،وأدم ذكره لتنل محبته، والزم شكره لتحظي بالمزيد، وعظم شعائره لتفوز بولايته. وحارب أعداءه ليخلصك بنصره.
(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِك)
هذه أعظم قضية في العالم، واكبر مسألة في الدنيا، وهي مسألة أن تعلم وتقر وتعترف أنه لا إله إلا الله فلا تعبد غيره، ولا توحد سواه.
إن الخلق خلقوا ليعلموا أن لا إله إلا الله، وأن الكتب نزلت لتثبت لا إله إلا الله ،وإن الرسل بعثت لتدعو إلي لا إله إلا الله، فقبل أن تعلم اعلم أنه لا إله الله، وقبل أن تدعو حقق لا إله إلا الله، وقبل أن تأمر وتنهي صحح لا إله إلا الله.
إن بداية الطريق لمن أراد الحياة الطيبة والعيش السعيد والخاتمة الحسنة والخلود في الجنة لهي هذه الكلمة الرائدة الخالدة بكل ما تحتويه من معني أراده الله عز وجل يوم فرض على العباد تحقيقها. ولابد لهذه الكلمة من اعتقاد جازم لا يخالطه شك، وحب صادق لا يكدره سخط، وصدق في قولها لا يمازجه كذب، وعمل بمقتضاها لا يناقضه مخالفة، ودعوة إليها لا يصاحبها فتور، وسلامة من كل ما يضادها أو يعارضها من شرك أو رياء أو بدعة ليكون قائلها أسعد الناس بها في الدنيا والآخرة.
لقد نزلت هذه الآية على الرسول النبي صلي الله عليه وعلي آله وسلم وهو أول داعية ليكون القدوة للناس، والأسود للبشر في معرفة سر هذه الرسالة الخاتمة، ومعرفة مقصدها ومرادها.
إن موجزها تعريف الناس بكلمة لا إله إلا الله، وكل قول وعمل واعتقاد في الدين فإنه من هذه الكلمة انبثق، وإن هذه العبارة شعار فهي أصول الأصول، وبوابة الديانة، وطريق الفلاح، ولأن الله صاحب الكمال والجلال والجمال والعظمة فحقنا أن نوحده بلا إله إلا الله، ولأننا أهل الذنب والخطيئة والعيب والتقصير فعلينا بالاستغفار ؛ ولهذا قال بعدها: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِك)، إن الله هو الخالق الرزاق وهو حقيق بالألوهية والربوبية، وإن العبد مخلوق مرزوق مطعوم محتاج، فحقه أن يستغفره فقط من سيئاته وخطاياه.
إن بين لا إله إلا الله واستغفر صلة، كما بين الرب القوي الغني الماجد الواحد الجواد، وبين العبد الضعيف الفقير المحتاج الفاني ، كل فضل وكل نعمة وكل عطية فمن الله، فواجب علينا أن نقر له بلا إله إلا الله، وكل خلل وزلل وعلل فمنا فحق علينا قول: استغفر الله.
إن العبد بين نعمة وذنب؛ ولهذا جاء في الحديث: (( وأبوء بنعمتك على وابوء بذنبي)). فالنعمة من الله الذي لا إله إلا هو. والذنب من العبد منجاته في التوحيد والاستغفار.
إن التوحيد حق الله لا ينازعه أحد فيه؛ لأنه واحد في ربوبيته واسمائه وصفاته وأفعاله، والاستغفار نجاة للعبد الذي غر شيطانه وخدعته نفسه وغلبه هواه واشغلته دنياه فوقع في المعصية.
والآن لك أن تعرف سر الاقتران اللطيف بين التوحيد والاستغفار ، وهذا وارد في عدة مواطن في القرآن مثل: ) فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ ) ومثل: (لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) ، وعند أبي يعلي في الحديث : (( أن الشيطان يقول: أهلكت العباد بالذنوب وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار.
(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)
تبدأ قصة النبوة بكلمة أقرأ يوم نزلت على رسولنا صلي الله عليه وسلم في الغار، ومن بداية اقرأ بدأنا، بدأ تاريخنا ومجدنا وحياتنا، ومن تاريخ نزول اقرأ بدأت مسيرتنا المقدسة، وتغير بها وجه الأرض، وصفحة الأيام ، ومعالم الدنيا فتلك اللحظة هي أسعد لحظة في حياتنا نحن المسلمين، وهي اللحظة الفاصلة بين الظلام والنور، والكفر والإيمان، والجهل والعلم، واختيار اقرأ من بين قاموس الألفاظ وديوان اللغة له سر عجيب ونبأ غريب، فلم يكن مكان اقرأ غيرها من الكلمات لا أكتب ولا ادع ولا تكلم ولا قل ولا اخطب، إنما اقرأ ، ويالها من كلمة جلية جميلة أصيلة.
اقرأ يا محمد قبل أن تدعو، واطلب العلم قبل أن تعمل (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِك)
إن اقرأ منهج حياة ورسالة حية لكل حى تطالبه بتحصيل العلم النافع وطلب المعرفة، وأن يطرد الجهل عن نفسه وأمته.
وأين يقرأ ـ بأبي هو وأمي ـ وهو ما تعلم على شيخ ولا رأي كتالاً ولا حمل قلماً؟
يقرأ أولاً باسم ربه كلام ربه، فمصدره الأول الوحي يتلوه غضاً طرياً، ويقرأ في كتاب الكون المفتوح ليري أسطر الحكمة تخطها أقلام القدرة ، فيقرأ ي الشمس الساطع، والنجوم الامعة، والجدول والغدير والتل الرابية ، والحديقة والصحراء، والأرض والسماء:
وكتـــــابي الفضــاء أقرأ فيه
صوراً ما قرأتها في كتـــاب
وكلمة اقرأ تلك تدل على فضل العلم وعلو مكانته، وأنه أول منازل الشرف والرفعة، وطريق السيادة والمجد، وبوابة السعادة والنجاح.
وكل سعادة وفلاح فسببها العلم؛ فرسالته صلي الله عليه وسلم علمية عملية؛ لأنه بعث بالعم النافع والعمل الصالح: (( مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث)).
فاليهود عندهم علم بلا عمل، فغضب عليهم، والنصارى لديهم عمل بلا علم، فضلوا، فأمرنا بالاستعاذة من سبيل الطائفتين: ) غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ).
وكلمة اقرأ رسالة موحية لها دلالات وأبعاد واسرار، فهي إبقاء للهمة لتطلب الهدي من مظانه، وتغوص في فهم الحياة، وتبحث عن الحقيقة ، وتكتشف أسرار الكون، وتطالع الآيات البينات في الإنسان والحيوان والجماد، وتسافر مع البحث العميق والدراسة المتأنية والعمق المعرفي الذي يكشف عظمة الخالق وقدرة البارى وحكمة الصانع جل في علاه.
(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً )
أنتم الأمة الوسط، وأنتم وسط بين اليهود الذين قتلوا الأنبياء والنصارى الذين عبدوهم، إذ إنكم أطعتموهم واتبعتموهم، وأنتم وسط في الزمان، ما جئتم في أول الزمان فلا تجارب ولا تاريخ، وما جئتم في ذيل الدهر، بل سبقكم أمم وجاء بعدكم أجيال، فاعتبرتم بالسابقين ، وأفدتم اللاحقين.
ووسط أنتم في المكان، فلستم في زوايا الأرض ولا في أطراف الدنيا، بل كنتم في قلب المعمورة، فدينكم شع من أم القرى لتوزعوا الهداية على الناس، وأنتم وسط في الديانة فلم تعبدوا كل شئ من حجر وشجر ومدر كما فعل المشركون، ولم ترفضوا العبودية جملة وتفصيلاً كما فعلت بعض الأمم، بل عبدتم الواحد القهار ، ووحدتم العزيز الغفار.
ووسط أنتم في المعيشة ، فلم تفعلوا فعل اليهود في البذخ والإسراف والانهماك في اللذائذ وتصيد الشهوات، ولم تفعلوا فعل النصارى في الرهبانية والانقطاع والتبتل وعذاب النفس، بل أعطيتم الجسم حظه والروح حقها.
ووسط أنتم في الفنون فلم تفعلوا ما فعل فارس، إذ كانت حياتهم هوايات وتسليات ، ولا فعل الروم إذ جردوا حياتهم من كل ممتع بهيج، بل لكم الجمال المباح والسحر الحلال من الأقوال والأفعال ، والنافع المفيد من مناهج الحياة.
وأنتم وسط في الأخلاق ، فلم تفعلوا فعل الأمم العدوانية المتوحشة الذين بغوا وطغوا وفتكوا، ولم تنهجوا نهج من استسلم لخصمه وذل لعدوه وقال: (( من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر، ))، بل عندكم صفح وحلم عمن يستحق، وتأديب وقصاص لمن يعتدي ، والكل له قدر.
وأنتم وسط في باب العلم فلم تجعلوا العلم مقصوداً لذاته كما فعل اليونان، ولم تهملوه وتضيعوه فعل الأمم البليدة التي غلب عليها الغباء؛ بل جعلتم العلم وسيلة إلى كل فضيلة ، وطريقاً إلى صلاح الدنيا والآخرة والفلاح في الدارين.
ووسط أنتم في العبادة فما أعرضتم عن النسك فعل الفجرة الجفاة، وما شققتم على نفوسكم وعذبتم أرواحكم فعل أهل الصوامع الغلاة؛ بل اقتصدتم في العبادة مع الحسن، واعتدلتم في النسك مع الجودة.
ووسط أنتم في التفكير فما هممتم مع الخيال فعل الشعراء الذين هم في أودية الوهم هائمون ، وما جمدتم جمود الفلاسفة الذين قتلوا العواطف وعطلوا المشاعر حتى جفت نفوسهم وقست قلوبهم ، بل أنتم مع الحقيقة سائرون ، فجمعتم بين القوة والرحمة، والواقعية والجمال، والنص والمعني، فأنتم وسط بين طرفين ، وحسنة بين سيئتين ، ونجاة بين مهلكين ، وقد وفق الله أهل السنة والجماعة ما بين قدرية يقولون إن الأمر مستأنف ولم يسبق قضاء من الله والجبرية الذين قالوا لا مشيئة للعبد وهو مجبور على كل فعل يفعله من طاعة ومصية، فأهل السنة اثبتوا علم الله وقضاءه ومشيئته وأثبتوا للعبد مشيئة ، تحت مشيئة الله.
وهم وسط في باب الوعد الوعيد بين الخوارج الذين كفروا بالكبيرة والمرجئة الذين قالوا لا تضر المعاصي مع الإيمان.
فأهل السنة لم يكفروا أهل الكبائر وإنما فسوقهم وقالوا بنقص إيمانهم.
وهم وسط في باب الأسماء والصفات بين من نفاها وشبه الله بخلقه أو مثلة بهم، فاثبتوا ما أثبته الله ورسوله من غير تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه ولا تعطيل ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) .
ووسط في باب حب أهل البيت بين النواصب الذين سبوهم والروافض الذين غلوا فيهم وسبوا الصحابة لأجلهم فأحبهم أهل السنة وتولوهم وأنزلوهم المنزلة اللائقة بهم.
( إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً)
يقول الجن لما سمعوا القرآن : إنا سمعنا قرآنا عجباً. عجيب!!حتى الجن يتعجبون من القرآن ، ومن الذي لا يعجب من القرآن؟! ومن هو الحي الناطق السميع البصير الذي لا يعجبه القرآن ويشجيه ويبكيه؟؟ ومن هو الذي له قلب أو ألقي السمع وهو شهيد ولا يتأثر باقرآن؟! أما الإنس فقد عجبوا كل العجب وذهب بهم الإعجاب كل مذهب، وقال قائلهم: إن له حلاوة وعليه طلاوة، وأما الجن فهم يصيحون صيحة المعترف: ( إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً) فهو العجب كله، والحسن أجمعه، في آياته ،ففيها من التناسق والتناغم والروعة ما يفوق الوصف والعجب في سورة ، فلكل سورة مشهد وإيحاء ورسائل غير الأخرى، وعجيب في عرضه الذي يقتحم أسوار النفس، ويزلزل أماق القلب، ويحتل مناطق التأثير، ويجتاح مستعمرات الضمير.
عجب لهذا القرآن ، نعيده نكرره نشرحه نتدارسه نحفظه ثم يبقي غضاً راقياً مشرقاً جديداً، عجباً لهذا كأنه يسوقنا إلى الآخرة بجحافل من رعب، وكأنه يحجزنا عن الإثم والخطيئة بسياج من الهدي، وكأنه يبعثنا كل يوم من قبور الإهمال وأجداث النسيان ، عجب لهذا القرآن كلما لغونا ولهينا وسهرنا نادانا من جديد، هلموا إلى الحق والجد والعمل، كلما ضعنا وتهنا وضللنا صاح بنا هنا الطريق هنا الهدي هنا الفلاح، كلما أذنبنا وأخطأنا دعانا أقبلوا على رب رحيم وملك كريم وجواد حليم، كلما فترنا واكاسلنا وتراخينا هزنا يا ناس واصلوا، يا قوم عجلوا وأبشروا واجتهدوا، كلما غضبنا وحزنا وضاقت السبل أمامنا صب القرآن على قلوبنا سحب الرضوان والسكينة والأمن ، صدق الجن: ) إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً) إنه ملام يشبع الروح، ويروي غليل النفس ويغسل أدران الضمير، إنه أحسن الحديث صدقاً ومتاعاً وفخامة واصالة، إنه أحسن القصص تسلية وتعزية وأسوة، إنه موعظة تردع عن الزلل وتحمي من الانحراف وتعصم من الذنب وصدق الجن : ( إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً).
تسمع القصائد وتنصت للمحاضرات وتروعك الخطب تشجعك المواعظ ثم تسمع القرآن فكأنك ما سمعت شيئاً وما أعجبك شئ ، وما نهرك شئ، لأنه كتاب لا ريب فيه، يرشد من الحيرة، ويحفظ من الضلال ، ويعصم من الزيغ ، فالقرآن حياة من الهناء والسعادة ، وعالم من الإبداع والجمال، وتاريخ من الأحداث والقضايا ، وسجل من الشرق والرفعة، وديوان من الخلود والنبل، بل تاريخ أمة، وخطاب عالم، وكلام إله ، ومستقبل أجيل، وقضية معجزة، هو حق يدفع باطل، ونور يكشف ظلاماً، وصدق ينهر كذباً، وهدي يحارب ضلالاً، وعدل يطارد ظلماً، وصدق الجن: ) إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً).
( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)
مدح الله نفسه بهذا الوصف المتضمن قدرته جل في علاه، وأنه لا يقع شئ في العالم إلا بإذنه ، فهو كل يوم في شأن ، يخفض ويرفع، يعطي ويمنع، يقبض ويبسط، يولى ويخلع، ويقني ، يضحك ويبكي، يميت ويحيي، يهدي ويضل، يعافي ويبتلي.
كل يوم هو في شأن؛ يعطي فقيراً، يهدي حائراً، يشافي مريضاً، يرد غائباً، يرشد ضالاً، يشبع جائعاً، يسقي ظمآناً.
كل يوم هو في شأن ؛ يسحق طاغياً، يمزق باغياً، يكبت فاجراً، يهزم كافراً، يخذل عدواً ، يرد معتدياً، ينصر ولياً، يحفظ صالحاً، ينجد ملهوفاً، يجيب داعياً، يحمي مظلوماً، يعطي سائلاً، يمنح نائلاً، يجبر كسيراً، يعين مسكيناً، يرحم ميتاً، يعافي مصاباً، يدحض باطلاً، ينصر حقاً.
كل يوم هو في شأن ؛ ينزل الغيث، يسوق الغمام، يجري الريح، يسخر البحر، يزيد العابدين، يوفق الصالحين، يدل المجتهدين، ينصر المجاهدين، يؤمن الخائفين ، يتوب على التائبين، يغفر للمسنغفرين.
كل يوم هو شأن؛ يولج الليل في النهار، يرسل البرق يكاد يذهب بالأبصار، يجري السفن في البحار، يحوط المسافرين من الأخطار.
كل يوم هو في شأن؛ يكشف كرباً، يزيل خطباً، يغفر ذنباً، يحل ويبرم، يقدم ويؤخر ، يثيب الطائع، يحلم على المقصر، يتجاوز عن المسئ ، يستر المذنب، يمهل العاصي.
كل يوم هو في شأن؛ يفلق الحب والنوي، يعلم ما في الأرحام، يكتب الآجال، يحصي الأعمال، ينزل الأرزاق، يفك القيود، يطلق الأسري، يكلؤ من في البر والبحر، يرعي المسافرين، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
كل يوم هو في شأن؛ يطلع على ما في السرائر، يعلم ما في الضمائر ، يجيب المضطر ، ينقذ من المخاطر، يعصم من المهالك، يهدي من الغي، يبصر من العمي ، يرشد من الحيرة.
كل يوم في شأن؛ يعزل ولاة، يخلع ملوكاً، يهلك دولاً، يبيد شعوباً، يأخذ المتكبرين، يقصم المتجبرين.
وإن من ينظر في الكون نظرة المتبصر ويتفكر في المخلوقات وما يقع في الأرض من أعمال وحوادث يعجب من عظمة الملك الواحد الأحد وسعه اطلاغه وبالغ علمه، جل في علاه، فكل حركة معلومة، وكل لفظة محسوية، وكل نقطة أو ورقة أو ثمرة محصية، عالم هائل من الحياة والموت، والغني والفقر ، والصلاح والفساد، والسلم الحرب، والهداية والغواية، والصحة والمرض، كل ذلك بإذن الملك الحق الذي لا تخفي عليه خافية من أعمال هذه الخليقة، فلا يلتبس عليه أمر، ولا تختلف عليه لغة، ولا يع-عن علمه شيء ، ولا تفوته حركة ، ولا تند عن علمه كائنة، وقد وسع علمه كل شئ ، وقد عم فضله وانتشر إحسانه.
إن العالم شركة صاخبة من البناء والنتاج والتزاوج والتولد والاتفاق والاخالاف والسلم والحرب، تصالح وتقاتل، تآلف وتباين، بيع وشراء، حل وترحال، يقظة ونوم، حياة وموت، لكن المذهل أن ذلك بعلم الأحد الصمد وبتقديره وتدبيره واطلاعه جل في علاه,
ملائكة تكتب وسجلات تحصي وأقلام تخط ودواوين محفوظة، والرقيب الحسيب على ذلك كله عالم الغيب والشهادة الذي لا تخفي عليه خافية.
(وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَة)
هذا قول إخوان القردة والخنازير الأنذال، يقولون يد الله مغلومة ، أي بخيلة ( غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاء) ، قاتلهم الله كيف تكون يد الجواد الماجد مغلولة، وكل نعمة قديمة أو حديثة، ظاهرة أو باطنة، جللية أو قليلة منه وحده جل في علاه: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّه) كيف تكون يده مغلولة؛ تعالي الله عن ذلك علواً كبيراً، وهو الذي صمدت إليه الكائنات ، وسألته المخلوقات مع اختلاف اللغات، وتعدد اللهجات ، بشتى الحاجات، فأعطي الجميع ، ومنح الكل، وما نقصت خزائنه ولا انتهي فضله، يقول عز وجل: (( يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر)).
كيف تكون يده مغلولة وهو الذي يطعم كل مخلوق، ومن فضله يعيش كل حي (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا )يطعم الطير في الهواء، والسمك في الماء، والوحش في البيداء، والدود في الطين، والليث في العرين: )يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) .
عم فضله، وشمل نواله، وعظم كرمه، وظهر جوده، من جاد فمن جوده يجود، عاش أعداؤه من فيض عطائه، وتقلب عبيده في نعمائه.
كيف تكون يده مغلولة وقد طبق العالم إحسانه، وعم الكون امتنانه،ملأ الخزائن، واشبع البطون، فبابه مفتوح، وجوده يغدو ويروح ، وخيره ممنوح، يعطي قبل السؤال، ولا يغيض ما عنده النوال؛ لأنه ذو الجلال والجمال والكمال.
هل من رازق غيره؟ هل من معط سواه؟ هل من متفضل إلا هو جل في علاه؟ وتأمل قود الرد على فرية اليهود وجزالة اللفظ وإشراق المعني وبراعة الحجة، فإنهم قالوا لعنهم الله: ) يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ) ، فخصوا يداً واحده، فرد عليهم بقوله: ( غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ ) ، فرد بالجمع ، ثم قال: ( بَلْ يَدَاهُ ) فذكر اليدين الاثنتين المباركتين، ثم وصفهما بأنهما مبسوطتان بالعطاء، ثم ذكر كيفية العطاء وحال هذا السخاء فقال: ( يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ) فتقدس اسمه ما أكرمه، وتبارك في علاه ما أحمله، وعز جاهه ما أعلمه.
وانظر إلى منهج القرآن كيف أورد الشبهة لاقتضاب ثم رد عليها بإسهاب، وأطنب في تفنيدها ودحضها حتى شفي القلب بهذا البيان الناصع، والبرهان الساطع، بخلاف ضعاف المجادلين فإنهم يتوسعون في عرض الشبهة، ثم يردون عليها رداً ضعيفاً فتبقي آثارها في القلب شبهاً وشكوكاًن فتبارك الله ما أحسن قيله.
وانظر إلي صديق المهيمن وكمال جبروته، فإنه أخبرنا بهذه المقولة الخاطئة الهابطة من هؤلاء الحقراء التافهين، وهي مقولة تتعرض لذلاته المقدسة ومقامه العظيم، ومع ذلك ذكرها صريحة مثلما قالوها، قاتلهم الله. بخلاف البشر، فإنهم لضعفهم وعجزهم لا يذكرون ما يقال عنهم من شتم، وإن قالوا فباستحياء وخجل على مذهب كاد المريب أن يقول خذوني، لكن الله عز وجل لتفرده بكل وصف جميل لم يبال بهذا السقط من القول، والسخف من الحديث، بل ذكره ليدحضه، واخبر به ليدفعه، وهو ما حدث في هذا الخطاب الباهر العجيب.
( سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً)
هذا وعد من أصدق القائلين، وهي بشري لعباده المؤمنين، ان سنته الماضية وحكنه القاضية، بأن العسر بعده يسر، فلا يضيق الأمر ويشتد الكرب إلا ويتبعه يسر، فبشر كل مكروب ومنكوب بفجر صادق من الفرج يصادر فلول الشدائد، وما أحسن هذه الآية سلوة للمعذبين بسياط الظالمين، وعزاء للمصابين، وبشري لأهل البلاء، وهذه الآية هدية غالية لمن طرح في السجن، وغلت يداه، وكبلت رجلاه، ليعلم أن فرجه قريب، وخروجه وشيك إلى عالم الحرية والانطلاق، وهي تحفة ثمينة لمن اقعده المرض، واضناه البلاء، أنه موعود بشفاء عاجل، وعافية قادمة ، فبعد الجوع شبع، وإثر التعب راحة، وعقب السقم شفاء، وخاتمة الشدة رخاء، ونهاية الفقر غني، النهار يخلف الليل، والنور يطوي الظلام، والماء يزحف على الجدب.
إذا امتدت الصحراء فوراءها رياض خضراء، وإذا اشتد الحبل انقطع ، إذا رأيت السحب فاعلم أن الغيث الهنئ في جوانحها، وإذا هالك الظلام فتيقن أن الصباح مقبل لا محالة.
إن العسر بعده يسران وليس يسر واحد، لتعلم أن مرارة المعاناة لها نهاية، وشظف العيش إلى انقطاع ، وكبد الحياة إلى راحة ، لو أن الخوف دائم لتقطعت النفوس حسرة، ولكن بعد أمن وسكينة، ولو أن الحزن مستمر لزلزلت القلوب زالزالها ولكن يعقبة سرور وأنس، ولو أن اليأس مقيم لاسودت الحياة في العيون، لكن خلفه أمل فلا تيأس من روح الله ولا تقنط من رحمة الله، لا تصارع الأوهام، وتقاتل الوساس، بل انظر من بوابة الرجاء لتري العالم المشهود، والحضرة المأنوسة، والسعادة القادمة، ولتري العناية الربانية تغمرك واللطف الإلهي يحوطك.
( لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ) فاغسل همومك بنهر التوكل، ( وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ، واحذر من تصديق وعد الآفاك الثيم والشيطان الرجيم؛ لأنه يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء، ولكن صدق موعد اصدق القائلين: ) وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) .
فبشر آمالك بمستقبل زاه وغد مشرق وفجر باه جديد؛ لأنه سبحانه ما ابتلاك ليهلك، وما أبدك ليخزيك؛ بل أراد أن يذكرك بسوط من ألم، وأن يوقظك من غفلتك لوخزة من ندم، وينبهك من رقدتك بجرعة من سقم؛ لتتذكر بالمصيبة النعمة، والبلاء العافية ، وبالمرض الصحة، وبالسجن الحرية، وحكيم في المسلكين، ولا تدري بالأصلح ، ولا تعلم بالأحسن، بل هو الأعلم الأحكم الأحلم الأرحم، جل في علاه، فارض باخيتاره فاختياره، لك خير من اختيارك لنفسك ، وعلمه بمصالحك أجل وأعظم من علمك؛ لأنك عبد جاهل فقير ضعيف، وهو عليم غني قوي ملك رحمن رحيم:
عسي فــــرج يكون عـسي
نعلــل نفـــــسنا بعــــــسى
فــلا تجـــــزع إذا قابلـ
ـت همـــــــاً يقطع النفسا
فـــأقرب ما يكـــون المر
ء من فــرج إذا يئـــــــسا
( وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّح)
الأقضية تقوم على أمرين إما حكم وإما صلح، فالحكم قضية عادلة وحكم نافذ، وقد يترك في نفس أحد الخصمين اثراً، فإن الحق لا يرضي الطرفين كما قال الأول:
إن نصف الناس أعـــــــداء لمن
ولي الأحكــام هذا إن عـدل
ولكن الصلح خير، فهو احسن أثراً، وأسلم عاقبة؛لأنه يبني على كرم النفس، وسماحة الطبع، فهو يأتي عفواً بلا حكم صادر من أحد، بل من جودة السجية، وحسن الخلال ، فالذي يسعي بالصلح مسدد معان محببوب؛ لأنه يريد البناء والخير، ولهذا قال شعيب: ) إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ).
عفا عن ظلمه في عرضه، فالصلح خير علي كل جهة أردت؛ لأنه يندم على الصلح أحد، إذ يعوض الله قابل الصلح سكينة وأمناً، وبرد عفو ولذلة كرم، يجدها في قلبه، لأن المصالح كريم، والكريم واسع البطان، رحب الباع، منشرح الصدر، بخلاف رافض الصلح فإنه يعاقب بحرج في صدره، وضيق في نفسه، جزاء وفاقاً لعمله.
واعتبر هذا بالبخيل والجافي الغليظ واللحوح الشحيح، ففيه من جدب النفس، وقحط الروح، وضيق الخلق، ما يفوق الوصف مجازاة لفعله الشنيع.
وما أجمل هذا التعقيب الباهر الساطع: ( وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ ) وهو تحذير للنفوس من هذا المرض الذي يصحبها ، ويغلب عليها فلا تقبل صلاحاً، ولا تعفو عن مظلمة، ولا تتنازل عن حق، ولا تعطي نوالاً إلا من رحم الله، ولكن في قوله: ( وَأُحْضِرَتِ) صورة حية لحضور شبح الجاثم القاتم، وكأنه ليل مكفهر، حضر بأسماله السوداء ووجه العابس.
ثم ذكر الأنفس لأنها مصدر الخير والشر، والجود والبخل، فمن حجث نفسه بالمعروف قبل الصلح وسعي إلى المسامحة ، ومن بخلت نفسه وظنت ضيقت على عباد الله، وسعت في استيفاء حقوقها بشراسة وعناد وفي قوله: (الشُّحَّ ) إشراق في العبارة؛ لأن الشح غاية البخل ومنتهاه، وهو اشمل من البخل الذي هو منع العطاء، وحبس التدفق، يزيد بترك العفو، ورفض المسامحة، والسعي في المطالبة والمعاتبة والمضاربة حتى قال ابن تيمية: المؤمن الصادق لا يضارب ولا يعاقب ولا يطالب، وإنما يمنع الإصلاح، قبول شح الأنفس الأمارة، ولهذا حسن أن يزف في سياق الآية، فمن نجا من شح نفسه عاش صالحاً مصلحاً، فصار كالغمامة أينما حلت هلت، فهو جواد عن الخصومة، سهل عفو عند المنازع، يسير عند الجدال، صفوح عن المعاتبة، بخلاف الشيحيح فهو بخيل بنواله، ثقيل في مطالبه، عنيد في خلافه، شرس في طباعه، وصدق الله: ) وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
(وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ)
الهماز اللماز إنسان ساقط في مجال الشرف، منحط من رتبة القيم، منسي في ديوان المثل السامية، لأنه هماز للأعراض ، لماز لعباد الله، وهو يهمز بقوله، ويلمز بفعله، فعينه ويده تهمز، ولسانه يلمز، ويل لهذا بالوعيد من عذاب شديد، من منال أكيد، ويل لهذا المتسلق على أكتاف البراء، القارض لأعراض الصالحين.
إن هذا الشرير همه فقط اقتناص المعائب ، وجمع المثالب فهو يفرح بالزلة، وتسره السقطة ، وتعجبه الغلظة، فهو يذكر السيئات في الناس ولكنه يتسي الحسنات، يستحضر الأخطاء غير أنها تغيب عنه الإصابات؛ لأن نفسه الأمارة مريضة:
ومن يك ذا فم مـــــريض
يجد مـــراً به الماء الزلالا
ولأن عين رشده بها رمد:
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد
وينكر الفم كعم الماء من سقم
لا يفرح بالفضائل التي تحملها القلوب الطاهرة؛ لأنه جحود حسود، لا يرتاح للصفات الجميلة والمعاني المعاني الجلية في الناس؛ لأن فعله سيئ وقلبه اسود ولسلنه مر:
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه
وصدق ما يعتــــاده من توهم
ويل لهذا الهمزة اللمزة من عذاب الله وغضبه، كيف يجور في حكمه، فهو بالمرضاد لعباد الله، ينشر مساوئهم، يتكفه بمعائبهم، يفرح بزلاتهم، يسعد بعثراتهم ، وهو يحب أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا؛ لأنه مخذول مهين، ويضيق ذرعاً بالأوفياء النبلاء والصالحين الأخيار؛ لأنه مارد اثيم، إن سلامة القلب وعفة اللسان موهبة ربانية يغدقها الله على من يشاء من عباده، فتري صاحبها ستراً عفيفاً، طاهر السريرة، سليم الصدر، يثني على الجانب المشرق في حياة الناس، تعجبه الخلال الحميدة، تفرحه الخصال الجميلة ، يحمل إخوانه على السلامة ، ياتمس للعباد العذر ، يشيد بالمكارم، ويهمل ما سوى ذلك، ليس عنده وقت لتشريح عباد الله على خشبة نقده، وما عنده فراغ لإحراق أوراق الصالحين بناره.
وإن من يتدبر هذه الآية ينتابه خوف مزعج من عواقب إرسال اللسان في الأعراض ، واغتياب عباد الله، وتتبع عوراتهم، وإنها علامة الإفلاس، ونهاية الخذلان، وويل لمن هذا فعله، قاتله الله كيف نسي نفسهن وتقويم اعوجاجه، وإصلاح ما فسد من أخلاقه ، وبناء ذاته، وذهب ، تبأ له ـ يتفحص ما ستر الله من العباد ، ويكشف المغطي من سجايا الناس، فهو عدو للنجاح، حرب للفضيلة، هدم لصروح المكارم، وويل لكل همزة لمزة.
(مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى)
كتاب الله ليس حديثاً يفتري، فما نظمه شاعر، ولا نفثه ساحر، ولا تفوه به كاهن، بل هو كلام الملك الحق المبين.
إن الأحاديث المفتراة متروكة لأساطين الأراجيف، ودهاقنة الزور، وأبطال الشائعات، وحملة الكذب، أما القرآن فهو الصدق كله، والحق أجمعه، لأن الله قاله، وجبريل حمله، ومحمد أداه ، تعالي الله وتقدس أن يكون كتابه مفتري، فهو أصدق القائلين، يقول الحق وهو يهدي السبيل.
إن أهل الافتراء اصناف من البشر كتب الله عليهم الخذلان منهم دجال مريب، يزرع الخرافات وينشر الأكاذيب ليصرف قلوب الناس إليه، ومنهم شاعر أفاك، يمدح بالباطل ويهجو الثوابت لينال الحظوة ويكسب المنزلة، ومنهم كاهن فاجر ، يدعي علم الغيب ويزعم معرفة المستقبل ليروج بضاعته المزجاة وكسبه الزائف على الخليفة.
أما هذا القرآن الذي طرق العالم، وهز القلوب وأذهل العقول، واسكت الفصحاء، فشأن آخر، إنه فيض من الحقيقة، ونهر من النور، أنزله الحكيم الخبير تبياناً لكل شئ، فهو أحسن الحديث، ,احسن القصص، وأجل المواعظ، واصدق الكلام، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ؛ لأنه نزل لهداية القلوب، وتطهير السرائر، وعمارة الضمائر، فهو معصوم من الفرية، محفوظ من الكذب منزه من الزور.
إن الوحي المقدس محفوظ عن نسج الخيال، وتصوير الوهم، فلا يدخله الشك، ولا يتطرق إليه الاحتمال، ولا يمازجه الهزل؛ لأنه يقين في نقلهن صادق في خبره، عادل في حكمه ، وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً.
إن على من أعرض عن القرآن واستبدله بأقوال البشر وخيالاتهم واوهامهم ان يتوب إلى ربه من هذا المسلك المشين، والمذهب البشع لأنه استبدل الذي هو أدني بالذي هو خير، فإذا لم تكن الحياة مع القرآن فمرحباً بالموت، وإذا لم يكن العيش مع هذا الوحى فأهلاً بالمنية؛ لأنه ليس بعد الحق إلا الضلال.
يكفي القرآن شرفاً أنه حديث لا يفتري، ويكفي أحاديث السمر وروايات البشر من حياة الفنانين أنها ترهات؛ لأنها وهم بلا صحة، وخيال بلا حقيقة، وظل بلا صورة، فكان جزاؤها الإهمال والضياع والخمول ، وكان حق القرآن الخلود والبقاء والذيوع: ) فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْض)(الرعد: 17).
(وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ)
الأفاك هو الكاذب في قوله: والأثيم هو الفاجر في فعله من جمع هذين الوصفين
استحق الخزي والويل ؛ لأن من هذا فعله فهو غاو منحرف، فالكذب واختلاف الأقوال وقلب الحقائق والزور في الحديث، دليل على مهانة صاحبه وخسة طبعه وحقارته.
والفجور وعدم مراعاة عهد الله وميثاقه وحفظ حدوده برهان على مرض القلب وفساده.
وإن من أعظم الذنوب الكذب ، فهو اصل النفاق وماؤه ومادته ، لا أمان له ولا نور عليه، ولا حجة معه؛ لأنه زائف دجال ، والأثيم منتهك للمحرمات، جرئ على الحمي، لا يردعه دين ولا تحميه قيم، وفساد الناس مرجعه إلى الكذب في الأقوال، والفجور في الأفعال، فالكذب ينتج الزور والافتراء والبهتان واليمين الغموس مع ما يتبع ذلك من قلب الحقائق والتضليل على الناس، واللعب بالأحكام وتشويه الأخبار، مع توليد الشائعات وتصوير الزيف الرخيص، والفجور ينتج منه سفك الدماء ، وسلب الحقوق ، ونهب الأموال ، وارتكاب الفواحش، فعاد الفساد في العالم إلى هذين الوصفين الأثيمين ، فحق على من نصح نفسه وأراد نجاته من البوار أن ينقذ نفسه من مغية الكذب والفجور بتحري الصدق واستحباب التقوي، ليحصل للعبد الأمان من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، إن مواهب الدنيا من مال وولد ومنصب وجاه لن تنفع صاحبها ما لم يركب قارب النجاة من الصدق مع الله، وردع النفس عن هواها ، والقيام بأمر الله في الأقوال والأعمال، ويكفي تهديداً ووعيداً قول جبار السماوات والأرض: )وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) .
فما بعد هذا من زاجر وليس وراءه من واعظ، إن قائمة الكذبة والسحرة والكهنة وشهود الزور تندرج تحت عنوان الأفاك، وإن قائمة القتلة واللصوص والزناة وأهل السكر والنهب تنضوي تحت كلمة اثيم ، فمن جمع الإفك والإثم فقد جمع الخسران، وحق عليه البوار ، وكتب عليه الشقاء، جزاء قوله الشنيع، وفعله الفظيع، وما ربك بظلام للعبيد.
(أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ)
اشغلكم تكاثركم بالأموال والأولاد والأشياء عن الاستعداد للقاء المحتوم واليوم الموعود، والالتهاء بالتكثر عن المقصد خذلان، والاشتغال بالوسائل عن المقاصد إفلاس ، فالتكاثر يكون بجمع المال وتكديسه وتخزينه، فلا ينفق في الحقوق ولا تؤدي به الواجبات، فيكون الفقر الحاضر والشغل الدائم:
ومن ينفق الساعات في جمــــع ماله
مخافـــة فقر فالذي صنع الفقر
والتكاثر في الأولاد والاعتداد بهم بطراً ورئاء الناس دون أثارة من صلاح أو سعي لرشد، والتكاثر بالنعم ترفاً وبذخاً وإسرافاً؛ لتكون من أعظم العوائق عن الهداية والتزود بالصالحات، والتكاثر ضرب من السفة ومذهب من الرعونة النبي صلي الله عليه وسلم يناسب عقول الصبيان وطموح الولدان، والتكاثر بالعوامل بلا ثمرة ، وتذوب في حفظها الأبدان بلا نفع، لأنها عطلت عن الامتثال، وفصلت عن الانتفاع بها، والتكاثر من الملهيات والمسليات والمغريات من شهوات ولذائذ وفنون وهوايات لتصبح الحياة بهيمية ساقطة، والهم سالفة، والعمر اضحوكة ، والبقايا مهزلة:
من يهن يســـهل الهوان عليه
مــــا لجرح بميت إيلام
إن المسؤول الذي ألهاه التكاثر بالأوسمة والنياشين والألقاب لهو عابث يحفر لنفسه قبراً في عالم الخذلان، والإحباط ، وإن العالم الذي ألهاه التكاثر بجمع الغرائب ، وحشد العجائب، والتطاول بمحصوله، والتباهي بمحفوظه، على حساب العمل لهو خاسر أشغله ذلك عن مرتبة الربانية، ودرجة الإمامة.
وإن الكاتب الذي ألهاه تكاثر نتاجه، واشغله هذا السيلان، ونمو بريق الشهرة، وخدعه زخرف المديح لهو كاتب مخذول، إن من قدم الصورة على المضمون، والظاهر على النية والقصد ، والدنيا عن الآخرة، والمخلوق على الخالق لهو عبد ضال سعيه وخائب منقلبه.
إن ركعة خاشعة من عابد صادق أجل من ألف رجعة لعبد ساه لاه عابث، إن قراءة آية بتدبر وتفهم خير من ختمة كاملة بلا حضور ولا تفكر، وإن مطالعة صفحة بإمعان أعظم من سرد مجلدات مع شرود وذهول، وإن الحسن أحسن من الكثرة ) لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) وإن حوضاً من ماء عذب أنفع من بحر ماؤه مالح، وحسبك من القلادة ما أحاط بالعنق.
( هَيْتَ لَكَ )
تقول امرأة العزيز ليوسف عليه السلام: هيت لك، قال: معاذ الله، وكلمة هيت لك فيها من الجذب فيها من الجذب والإغراء والفتنة ما يقود النفس الأمارة للاستجابة ، ولكن الله سلم وعصم ولطف.
ويا لمقام يوسف، وقوة يوسف، وصلابة عزيمته وجلالة نفسه يوم هزم هذا الإغراء الفاتن بالكلمة الطاهرة الخالدة، معاذ الله ، وياليت كل مسلم إذا ماجت أمامه الفتن وتعرضت له الإغراءات أن يفزع إلى من: معاذ الله، ليجد الحفظ والصون والرعاية، ويحتاج المسلم كل وقت إلى عبارةك معاذ الله ، ليجد الدنيا بزخرفتها وزينتها ناديه: هيت لك، والمنصب ببريقه وطلائه يصيح: هيت لك، والمال بهالته وصولته يقول: هيت لك ، والمرأة بدلالها وحسنها وسحرها تعرض نفسها وتصيح: هيت لك، فمن ليس عنده معاذ الله ماذا يصنع؟!
وإن الفتنة التي تعرض لها يوسف لهي كبرى، وإن الإغراء الذي لقيه لهو عجيب ، فهو ـ عليه السلام ـ شاب ع-غريب في الخلوة وفي أمن الناس؛ لأنها زوجة الملك، ثم هي مترفة متزينة ذات منصب وجمال وشرف ومال، وهي التي غلقت الأبواب ودعته إلى نفسها فاستعصم، ورأي برهان ربه ونادي: معاذ الله ، فكان الانتصار على النفس الأمارة والهوي الغلاب، فصار يوسف مثلاً لكل عبد غلب هواه، خاف ربه، وحفظ كرامته، وصان عرضه.
ونحن في هذا العصر بأمس الحاجة إلى مبدأ : معاذ الله ، فالمرأة السافرة، والشاشة الهابطة، والكلمة السافة، والمجلة الخليعة، والأغنية الماجنة؛ كلها تنادي هيت لك، وجليس السوء ، والصاحب الشرير، وداعية الزور، وشاعر الفتنة؛ كلهم يصيحون هيت لك، فإن وفق الله وحصلت العناية، وحلت الرعاية صاح القلب صيحة الوحداني: معاذ الله.
إبليس يغريني ونفسي والهوي
مــا حيلتي في هذه أو ذاكا
ولنا في التاريخ المحفوظ مطالعة في سير الأبرار، فمنهم من تعرضت له السلطة ، ومنهم من دعته الوزارة، وثالث طلبه المال، ورابع طاردته الشهوة، وآخر تعلقت به الدنيا، وكلهم فر وهو يقول: معاذ الله؛ فكان جزاؤه عوضاً أغلي، ومنزلاً أعلي، وعطاء أحلى، ورفعة عند ملك الملوك الذي ملكه لا يبلي، وخزائنه لاتنفد ، وجاره لا يضام،في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
(وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ)
المنافقون يهتمون بالظاهر على حساب الباطن، أجسامهم روية، وقلوبهم خاوية، ظاهر مغري، وباطن مخزي، في العلن رجال وفي الخفاء خفافيش، ألسنة حالية ونفوس مريرة، فأول ما تشاهده منهم طلعات بهية، وهياكل قوية، وعضلات مفتولة، وسواعد مشدودة ، شبع وسمن، ودعاوى عريضة، وتمدح أجوف، ولكنهم يحملون هماً ساقطاً، وعزائم منحطةن ونيات خبيثة، ومرادات قبيحة، مرض ينخر في قلوبهم، وشك يعصف بنفوسهم، وخواء يعشعش في ضمائرهم، أما ألسنتهم فهي اسواق لبضاعة الكذب، ومتاحف للزور والبهتان، وأما قلوبهم فأطلال باليه أقام بها النفاق، وحل بها الكفر، وملأها الرجس.
إن المسألة ليست بالصور والهندام وجمال الأشكال وبهاء الهياكل ، ولكن المسألة مسألة قلوب تبصر النور، ونفوس تفيض بالخير، وسجايا تشع بالفضيلة.
إن من يرتاب في أمر الله، ويشك في دينه، ويعرض عن عبادته ،ويحارب رسله، ويعادي اولياءه، ويسخر من عباده لهو أولى الناس بالنبذ والإذلال والإهانة ؛ لأنه خبيث النفس، خائن الضمير، ميت الإرادة.
إن هؤلاء الذين تعجبك أجسامهم إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى، ولا يذكرون الله إلا قليلاً، ولا ينفقون إلا وهم كارهون، فهم اضعف شيء عن الطاعات، وفعل الصالحات ، وأداء الواجبات، ولكنهم أقوياء في اقتطاف الشهوات، وتصيد اللذائذ، وركوب المعاصي.
إن الله لا ينظر إلى صورنا ولا إلى أجسامنا ، ولكنه ينظر إلى قلوبنا وأعمالنا، فلا يغرك جسم لا قلب فيه، وهيكل لا روح فيه، وجثمان ليس به حياة:
لا باس بالقـــوم من طول ومن عظم
جسم البغال وأحلام العصـافير
وعلينا النظر إلى الحقائق ومعادن الناس وأخلاقهم وصفاتهم:
خذ بحد السيف واترك نصلــه
واعتبر فضل الفتي دون الحلل
إن الرجال لا يقومون بالثياب ، وإن العظماء لا يقاسون بالأشبار، ولا يوزنون بالأرطال، ولكن قيمتهم عملهم الصالح، وقياسهم أخلاقهم الجميلة، ووزنهم تاريخهم المشرق.
إن شعرة في رأس عبد الله بن مسعود؛ الصحابي خير من مليون رجل من أمثال عبد الله بن أبي سلول؛ المنافق السمين البدين البطين، وإن ظفر بلال بن رباح أفضل من جيش من أمثال أبي جهل الضخم الفخم المريد الرعديد، لأن المسألة مسألة إيمان وفقه وصلاح وتقوى لا لحم ولا عظم ولا شحم ولا دم.
(وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ)
المطففون صنف من الناس يستوفون حقوقهم من الناس ولا يوفون الناس مالهم بل يبخسونهمن فحقوقهم على الناس وافية كاملة، وحقوق الناس عليهم ناقصة، إن كان الحكم لهم رضوا وقبلوا، وإن كان عليهم نفروا وأعرضوا، لهم مكيلام في الأحكام والأقضية والحقوق، فهم ومن أحبوه محقون دائماً، مبرؤن أبداً، أعرضهم محمية، واشياؤهم محفوظة، وأموالهم محصنة، وسواهم مبطلون، متهمون ، لا حق لهم ولا حفظ ولا رعاية.
إن كالوا أو وزنوا لأنفسهم فالزيادة لهم، وإن كالوا أو وزنوا لغيرهم فالنقص لسواهم، إن حكموا في قضية فالحق معهم، وإن حكموا على غيرهم ظلموا وجاروا، إن جادلوه دائماً، فهو مبطل متعد لا دليل له ولا حجة.
إن كتبوا التناريخ والسير فالثناء لهم، والمدح ينهال عليهم وعلى اشياعهم ، والسب والنقص لمن خالفهم، العالم المقصر إذا احبوه فهو وحيد العصر وفريد الدهر، والعالم المتقن المحقق إذا كرهوه فهو ضعيف واهم، الخطيب الثقيل البارد من أصحابهم مفوه مصقع ، والخطيب البارع الأعجوبة إذا خالفهم فهو ذو عي وبرود وسماجة ، الشاعر الهزيل من شيعتهم فذ باقعة، والشاعر العبقري من أعدائهم متكلف متصنع، إن أحبوا سلطاناً ظالماً فهو عندهم بركة العصر وريحانة الدنيا، وإن كرهوا سلطاناً عادلاً فهو الغاشم الظالم، أدلتهم صحيحة أبداً ضعيفة ساقطة ولو كانت قوية محكمة ، يرون سيئاتهم هم حسنات ، ومناقب غيرهم مثالب، من مدحهم ولو بالباطل فهو صادق وبالحق ناطق، ومن نقدهم ولو بالحق فهو كذاب آثم.
إن أخطأ أحدهم فهو مأجور، وذنبه مغفور ، وسعيه مشكور، وإن أصاب من خالفهم فهو مأزور لا معذور، الورد في بستان من أبغضوه شوك، والحنظل في حديقة من أحبوه ياسمين، إن يكن لهم الحق يأتوا مذعنين، وإن يكن عليهم يتولوا عنه معرضين، يحكمون لأنفسهم قبل سماع الدعوى وعرض الحجة، ويحكمون عاى من سواهم قبل قيلم البينة وحضور الشهود، حبيبهم إذا أخطأ قالوا: التمس لأخيك عذراً، وعدوهم إن اصاب قالوا: لن نستطيع عليه صبراً؛ (أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) .
( فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ )
لما أعرض أهل سبأ عن طاعة الله مزقهم كل ممزق، وقال: فجعلناهم أحاديث، وفي هذه العبارة من قوة الأسر وروعة البيان ما يهز النفس، فكأنه حول هذه الأمة القوية إلى أحاديث فقط تدور في المجالس على السنة السمار.
لك أن تعمم هذا المثل على كل أمة سادت ثم بادت، أما اصبحت اقوالا تدار في المجالس، أما ذهبت قوتها، وسحق جبروتها، ومات ملوكها، ولم يبق إلا مجرد الخبر عنهم فحسب، أين الدول؟ أين الملوك؟! اين الجيوش؟! ذهبوا ولم يبق من ميراثهم درهم ولا دينار، وإن بقي من بيوتهم الألنس، فلم يفصل في هلاكهم وكيف دمروا وماذا بقي من بيوتهم ومتاعهم، وإنما طوي الزمان والمكان، ثم أخبرنا أنه ما بقي منهم إلا الخبر عنهم، وإن حياة تنتهي إلى هذه الخاتمة لحقيق أن يزهد فيها، وأن يرغب عنها.
فبينما تري الأمم دائبة في صنع وجودها ساعية في بناء حضارتها، وإذا بها هباء منثور ليس في الوجود منهم إلا كلمات تخبر عنهم، وهنا وقف أمام قدرة القوي القهار وهو يأخذ أعداءه هذا الأخذ في لمحة الطرف، ثم لم يبق منهم باقية ، ولم يترك لهم اثراً، ثم التفت إلى جمال عبارة القرآن واسرارها، وسرح الطرف في هذا الحسن لتري الإعجاز في الإيجاز، والقوة في الأسر، والمتعة في التأثير، وانظر إلي الواقع، وأسأل نفسك أين الحضارات التي ملأت الأرض، واين الدول التي طبقت الدنيا، تعيش الدول ألف سنة ثم تنتهي فلا يبقي من آثارها إلا كلمات على شفاع السمار، وجمل على ألسنة الركبان:
أعندكم خبر عن أهل أندلس
فقد مضي بحديث القوم ركبان
اقرأ متن ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ) على حضارة تدمر ودمشق وبغداد والزهراء والحمراء وقرطبة وغرناطة، فإذا هي قاع صفصف، أين التيجان والسلطان والهليمان: ( كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ) ، إن من يتدبر: ( فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ ) يعلم هوان الخليقة على الله، وتفاهة من حاد الله، وسخف من حاربهز
إن عدتهم وعتادهم وقوتهم لا تواجه من الله إلا بكلمة: كن؛ ليصبح الجميع أحاديث تتلى في النوادي ، وقصصاً تساق في المجامع، فلا قصورهم حمتهم ، ولا جيوشهم منعتهم، ولا أموالهم شغفت لهم.
(وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ)
الصبح آية من آيات الله دالة على بديع صنعه وجميل خلقه، فالصبح له طلعة بهية ووجه مشرق يشع بالجلال والحسن، ومن أراد أن يعرف جمال الصبح فليتأمل قدومه بعد صلاة الفجر كيف يدب دبيباً كالبرء في الجسم وكالمااء في العود ، فإن الصبح يزحف بعد جحفل من الظلام فيطويه أمامه، فكأن الكون وجه تتبلج أساريره، وتشرق قسماته، وترتسم على محياه بسماته، وما أجمل الصبح، قيه يهب النسيم العليل، ويشع النور الهادئ ، والضوء الدافئ، وتبدو الحياة، ويميس الزهر، ويندي الظل، وتتفتح الأوراق، تفتح شفاه المحبين عن أسئلة حائرة، وتتفتق الأكمام تفتق عيون العاشقين عن أسرار دفينة.
في الصباح رجع الصدي، وقطر الندي، وحفيت الهواء، وتمتمة الماء، وتغريد الطيور، وسجع الحمام، وأنغام العندليب ، في الصبح يرتحل الفلاح بمسحاته إلى الحقل ، ويسوق البدوي أغنامه إلى المرعي، ويذهب الطالب إلى مدرسته، والطبيب إلى عبادته، والبائع إلى حانوته، فالصبح أذان معلم بالحياة ، وإعلان بيوم جديد، وملاذ مجيد، لنهار آخر من الجد والعمل والعطاء والنماء.
ولكن أما دعاك هذا اللفظ الشائق في قوله: (وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ) أما وقفت معه وقفه إجلال للإبداع واحترام للبيان؟ كيف يتنفس الصبح؟ ! سؤال يجيب عنه من قرأ حروف القدرة على صفحات الكائنات، والصبح يوم يتنفس كأنه محزون فقد أحبابه، فخرجت أنفاسه الحارة من أعماقه، أو كأنه مكبوت يشكو آلامه، فانبعثت من حشاياه آهاتاه، أو كأنه مظلوم صهر الظلم قلبه فانفجرت روح بزفراته، أو كأنه مسجون كبلت يداه وقيدت قدماه، فعبر بلهيب توجعه عن معاناته.
وما أجمل أسلوب القرآن، ففي كل ذرة من اللفظ درة، ومن يدري لعل الصبح تنفس بعد ليل طويل قاس من الظلام والهجر والقطيعة، ولعله تنفس تنفس المسرور بلقاء أحبابه، السعيد برؤية اصحابه؛ لأن الصبح مقبل عن نهر جميل ، وحياة دائبة، وحركة نشيطة من الجد والبذل والتضحية ، والمقصود أن هذا الصبح كان مكظوم الأنفاس، مكبوت الحشي، ثم حانت لحظة الانطلاق فتنفس، وأنا أدعو سلاطين البلاغة ودهاقنة البيان وأرباب الفصاحة أن يقفوا خاشعين أمام (وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ) ليذوقوا لذة الجمال، ومتعة الحسن، ليعلموا سر الإعجاز ، في هذا الكتاب المعجز الخالد، وليدخلوا ديوان عظمة الخالق، ديوان قدرته ليروا جمال المقال، وبديع الأفعال ، من ذي الجلال والإكرام.
(فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى)
لا تمدحوا أنفسكم فعلمها عند اللطيف الخبير، ولا تثنوا عليها فإن الناقد بصير، وما أجهل الإنسان إذا زكي نفسه وشهد لها بالفضائل وبرأها من الرذائل، وما اثقل كلامه وهو يستعرض على ربه وعلى الناس مناقبه ويسوق محامده ويذكر حسناته.
إن الذي يزكي نفسه في محل التهمة وفي مقام الربية؛ لأن الإنسان بطبعة ظلوم جهول ، يحب نفسه ويعشق ذاته، ويعجب بصفاته ، فإذا نما هذا الطبع وأعلنه في الناس كان دليلاً على قلة تقواه وضحالة معرفته، وأي شئ عند الإنسان حتى يزكي نفسه وهو بين نعمة لم تشكر، أو ذنب لم يغفر ، أو عثرة لم ظهر، أو زلة من ربه تستر؟
أفلا يكفيه أن الذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره قبل منه القليل، وغفر له الذنب الجليل، واصلح خلله وستر زللـه ، ثم يأتي هذا الإنسان بدعاوى عريضة ونفس مريضة ليخبر ربه الذي يعلم السر وأخفي أنه ذو تقوى ، والله أعلم بمن اتقي، فهو الذي لا تخفي عليه خافية.
وإن منطق الزور ولسان البهتان أوحي إلي إبليس اللعين بتزكية نفسه الشريرة ليقول لربه: )أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) لتكون هذه التزكية لعنة ما حقه وضربه ساحقة لهذا المريد العنيد، وإن الشهادة الاثمة للنفس سولت لفرعون الطاغية ليقول: ) أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصرْ) فاذله القوي العزيز، وأرغم أنفه في الطين.
وإن التزكية المفتراة دفعت بقارون الآثم ليفوه بفرية: ) إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي ) ألا فليصمت العيد الضعيف الهزيل، وليسكت المخلوق الفقير، وليخجل العبد المسكين من ربه، وليهضم نفسه، فلولا ستر الله لظهرت الفضائح، ولاولا لطف الله لبدت القبائح، وإن من يتصدر النوادي ليخبر الناس بنسبه الأصيل لهو فاشل، ويحدثهم عن مجده الرفيع لهو أحمق ، ويزكي لهم تقواه لهو مخدوع، ويذكرهم بمناقبة لهو مخذول.
لماذا لا يترك العبد تزكية نفسه لربه، فهو الذي يزكي من يشاء وقوله الحق؟!
ولماذا لا يدع الإنسان أعماله تتحدث عنه لا أقواله، وإحسانه لا لسانه؟ وسوف يطهر زيف من مدح نفسه بالباطل، فالناس شهداء الله في الأرض، وألسنة الخلق أقلام الحق، وإن عبداً خلق من نطفة لجدير بأن يصمت، وإن مخلوقاً يحمل فضلاته لحقيق أن يسكت، ونعوذ بالله من لسان حى بالمديح، وقلب ميت بالقبيح، ومن عجب ظاهر، وذنب خفي.
فيامن أخفيت على الناس العيوب، وسترت عن العيوب الذنوب، نسألك صلاح القلوب فإنك علام الغيوب.
(َأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)
تحدث عن جميلينا، أخبر الناس بأيادينا، أعلن نعمنا عليك، لأن الجحود خطيئة والتنكر سيئة ، وكتمان المعروف لؤم ، إن الله يحب من عبده أن يشكره، وأن يثني عليه، وأن يعترف بما وصل من بره إليه؛ لأن الله يحب المدح، فهو أهل له، ويريد الحمد؛ لأنه مستحق له.
ونعم الله تغمر العبد، فإذا قابلها العبد بالحمد والثناء علي مسديها، والمدح والشكر لمهديها بورك فيها، وإذا تنكر لها العبد وجحدها وكتمها محقت وذهب نفعها، والله يلوم الحااسدين من عباده فيقول: )يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا) فهم يعلمون أن مانح النعمة هو الله، ولكنهم لؤماء يتنكرون للجميل، وينسون المعروف، وينسبون الفضل لغير أهله.
ورد في أثر : (( إن القلوب جبلت على حب من أحسن إليها))، فقال أبو معاذ الرازي معلقاً على الآثر: (( يا عجباً ممن لا يري محسناً إلا الله كيف لا يميل إليه بالكلية))، وقال بعض السلف: ((ويحك يا ابن آدم والله لو كساك رجل ثوباً لرأيت إحسانه وعرفت جميله فكيف بمن كل نعمة وصلتك فمن عنده، وكل خير لك لديك فمن لدنه)) وقال المغيرة: (( إن صاحب الكلب يحسن إلى كلبه فلا ينبحه ويحفظ له وده، فكيف بمن غيرك بنعمة))، وقالوا لعابد في البصرة : (0 كيف أصبحت؟)) قال (( اصبحت في نعم غير مشكورة وذنوب غير منسية)). وفي حديث حسن أنه صلي الله عليه وسلم قال : (( سمع سامع بفضل الله ونعمته علينا)) وقال رجل لملك بن دينار : (( أشكو إليك ديوناً لحقتني وحاجة لزمتني، فقال مالك: ويلك كأنك تشكو الله إلى خلقه وله عندك نعم ما شكرت، وأياد طالما كفرت)).
وقال بعض الشعراء:
وإذا شكوت إلى العبــــاد فـــإنمــا
تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم
وقال الحسن البصري لفرقد السبخي: (( تعال تغدي معنا من هذا الخبيص؛ وهو طعام لذيذ ، فقال فرقد: أنا لا أكل الخبيص لأنني لا أدري شكره، فقال الحسن: قاتلك الله، وهل أديت شكر الماء البارد)).
وكان بعض العباد ينادي: (( سبحان من أعطي الجزيل، ووهب الجليل، ورضي بالقليل ، وستر القبيح من العمل)).
وقال رجل لأحد الوعاظ: (( هل تري لي شرب الماء البارد أو الحار؟ قال: اشرب البارد؛ لأنك إذا شربته أروي عرقك، وإذا شربت الماء الحار قلت: الحمد لله بكزازة، أي: بثقالة ومشقة.
وبالجملة ينبغي إظهار نعمة المنعم شريطة أن لا يكون من باب الزهو والرياء والعجب، مع ملاحظة عين الحاسد فإنها تصيب، وقد جعل الله لكل شئ قدراً.
( كُونُوا رَبَّانِيِّينَ)
تعلموا العلم النافع، واعلموا العمل الصالح ، وعلموا الناس الحكمة، واصبروا على الأذى في ذلك، فإذا فعلتم فأنتم ربانيون.
كونوا مصابيح الدجي، داعة الهدي، الزاجرين عن الردي، الناشرين للفضيلة الناهين عن الرذيلة، المصلحين في الأرض ، المحبوبين في السماء ، فإن فعلتم فانتم ربانيون.
تواضعوا للعباد، ارحموا الناس، أشفقوا على الخليفة، عودوا المريض، فكوا العاني، اطمعوا الجائع، أعطوا الفقير، امنحوا المسكين، انجدوا الملهوف، انصروا المظلوم؛ فهذه أخلاق الربانيين.
وما أشرف وأجل كلمة ربانيين، إنها لكلمة كبيرة في كبيرة في الفم، كبيرة في السماء، كبيرة في الأرض، إنها نسبة إلى رب الناس ، ورب كل شئ، وهو نسب اصيل رفيع، فمن استكمل صفات الربانية وجمعها ووفاها وقدرها حق قدرها فهو رباني، ويكفي العلماء العالمين الصادقين أن يقال لأحدهم رباني؛ فهي أعظم سيرة محترمة لهذا العالم الصادقين أن يقال لأحدهم رباني ؛ فهي أعظم سيرة محترمة لهذا العالم، وأجمل ترجمة خالدة لهذا الإمام، فلا ينسب إلى بلدة ولاقبيلة وإنما ينسب إلى الله رب العالمين: نسب باذخ ومجد عظيم..وصفات أبهي من الإصباح.
أما الرباني، فقال بعض السلف عنه: هو الراغب في الآخرة الزاهد في الدنيا، وقيل: من إذا رايته ذكرت الله وإذا عاشرته تعرفت على الرسول صلي الله عليه وسلم ، وقيل : من حبيبك في الله، وحثك على تقواه، وبصرك الطريق، وردك عن الردى فهو رباني.
ولابد للرباني من إخلاص لا يشوبه رياء، وزهد لا يكدره طمع، وصدق لا يشوهه كذب، وسنة لا تعارضها بدعة، وعزيمة لا يوهنها ترخص، يخضع العقل للنقل، ويطوع الهوى للوحي.
إن من الواجب على طلاب العلم ورواد السنة وأتباع الرسول صلي الله عليه وسلم أن يسمعوا بكل ما أوتوا من قوة إلى مرتبة الربانية ودرجة الإمامة، ونيل شرف هذه النسبة، والله إن الرجل ليرفع رأسه إذا نسبوه لملك من ملوك الأرض، وإن منهم من يفتخر إذا ألحقوه بوزير أو أمير، أو ذكروا أنه من سلالة شاعر او جواد أو شجاع، فكيف ـ بالله ـ حال من نسب إلى مالك الملك قيوم السماوات والأرض رب العالمين، والله لو تقطعت الأقدام مشياً في رضوانه، وتخددت الوجوه من الدموع من خشيته، وتقرحت الأجفان من الدموع عند ذكره، لكان كل ذلك سهلا يسيراً في سبيله جل في علاه.
( يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه)
أخبر الله عن أوليائه الصادقين ، وعباده الصالحين، بأنه يحبهم ويحبونه، وهو خبر تهش له نفس المؤمن، ويشتاق إليه قلب الولى، والعجيب قول: يحبهم فهو الذي خلقهم وأطعنهم وسقاهم وكفاهم وآواهم ثم أحبهم، وهو الذي رباهم وهداهم وعلمهم وألهمهم وأرشدهم ثم أحبهم، وهو الذي أنزل عليهم الكتاب، وأرسل إليهم الرسل، وبين لهم المحجة ، واوضح لهم الحجة، ثم أحبهم، فيا له من فضل عظيم، وم عطاء جسيم.
أما قوله عنهم: (يُحِبُّونَه) فهذا عجيب أيضاً، فكيف لا يحبونه وقد أوجدهم من العدم، وأطمعهم من جوع، وآمنهم من خوف، وكساهم من عري؟
كيف لا يحبونه وهو الذي وهب لهم الأسماع والأبصار، وحماهم من الأخطار، وحفظهم في سائر الأقطار؟
وكيف لا يحبونه وهو الذي وهب الأموال والأولاد، وأغدق عليهم الأرزاق، وساق إليهم كل ما يطلبونه ومنحهم، كل مايسألونه، وأمنهم من كل يخافونه
كيف لا يحبونه وقد سخر لهم ما في البر والبحر، أرسل لهم السماء بالماء، وشق لهم الأرض بالنبات ، وجعل الأرض بهم فراشاً وذلولاً ومهاداً ، والماء بناء ، ورزقهم من الطيبات ، واصناف الثمرات، ومختلف المطعومات، وسائر المشروبات؟
كيف لا يحبونه وهو الذي أنزل عليهم القرآن، وعلمهم البيان، وهداهم إلى الإيمان ، وحذرهم من كيد الشيطان.
وما أجمل المقابلة بين قوله: ( يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه) فهو حب بحب أزكي من حب الرب، فليت من له مقام في دنيا المحبين أن يتذوق هذه اللفظة المشرقة، وأن ينقلها رسالة قوية لعشاق الفن محبي العيون السود، والخدود والقدود؛ ليعلموا أن حبهم منقوص هابط، وحياتهم ذازية ذابلة، وقلوبهم خاوية خربة، ونفوسهم ظالمة ظامئة، وبصائرهم كسيفة كليلة، أما حب أولياء الله فهو الحب الصادق الصائب الطيب الطاهر الزكي النافع.
والله إن من أجل مطالب لقوي السوي وصوله إلى رتبة ( يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه) .
وإن من أعظم العطايا وأشرف المواهب لهي عطية وموهبة: يحبه ويحبونه، كل حب غير حب الله مقطوع، وكل عمل غير عمل الله ضائع ، كل السعي لغير مرضاته باطل، كل تعب في غير مرضاته عناء:
سهر الهيون لغير وجهك ضــائع
ورضي النفوس بغير حــبك باطل
فيا من خلق خلقاً ثم رزقهم ثم هداهم ثم أحبهم اسألك أن تجعلنا من أحبابك، وخالص عبيدك، وصالحي أوليائك؛ فإنك أهل للإجابة، معروف بالإحسان ، مقصود لكل مطلوب.
( لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)
هذه آية الفرج ما قالها عبد مكروب إلا فرج الله عنه، بذلك صح الخبر. وفيها أسرار عظيمة ورسائل مهمة، لكن لمن له قلب أو ألقي السمع وهو شهيد.
ففي هذه الآية إقرار بالتوحيد، وإثبات للتنزيه، واعترف بالذنب، وهي أركان ثلاثة عليها تقوم العبودية وبها ينال ما عند الله من لطف ورحمة ورزق وهداية ، ولهذا فرج الله عن يونس عليه السلام لما قالها، ويفرج عن كل من قالها من المؤمنين لقوله تعالي: ) وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) فركن التوحيد في: لا إله إلا الله، وركن تقديس الرب وتنزيهه في: سبحانك ، وركن الاعتراف بالخطيئة في: إني كنت من الظالمين.
فلا إله ألا أنت، اعتراف بألوهيته سبحانه وكماله وتفرده بكل وصف حسن، وسبحانك نفي النقص والعيب عنه، إني كنت من الظالمين، اعتراف من العبد بالتقصير والخطأ.
فكأن العبد نسب كل مدح وجود إلى ربه ونزهه عن كل شين، وقدح لا يليق به، ثم اعترف هذا العبد بظلمة وعدوانه فكانت هذه الكلمة بحق من أغلى الكلمات واثمنها في ميزان العبودية.
وما من عبد إلا وتمر به كارثة، أو يلم به خطب، أو تقع عليه شدة، فإذا قال هذه الكلمة بقلب حاضر خاشع مخبت أنقذه الله من كل ما أهمه، وفرج غمه ، وأزال حزنه وكشف كربه.
والله عز وجل في كتبه وعلى ألسنة رسله أوجب توحيد على عباده، ونزه نفسه، وأخبر بظلم العبد وكفرانه وتمرده، فجاءت هذه الآية متضمنة هذه المعاني في أحسن وأجمل خطاب وأزهي حلة، حى إن بعض الصالححين كان يعكف بقلبه علي هذه الكلمة ترداداً وتكراراً فيجد من الأنس والراحةوالأمن والانشراح ما يفوق الوصف، وقد شرحها شيخ الإسلام؛ فأحسن وأجاد، ووردت في فضلها آثار، وكان يوصي بها الصالحون من أحبوا، ويكفي في فضلها قوله صلي الله عليه وسلم : (( كلمة أخي ذي النون ما قالها مكروب إلا فرج الله عنه)).
فالواجب على العبد أن يعطي كل أصل من اصولها الثلاثة ما يستحق، فاصل القول اعتقاده، والعمل بمقتضاه والتبرء بما يضاده، واصل التنزيه عدم عدم نسبة المشابهة والمماثلة له سبحانه بخلقه، أو وصفه بغير ما وصف به نفسه، أو تحوير كلامه والإلحاد في أسمائه وصفاته، وأصل الاعتراف بالاقتراف تحقير النفس، والنظر إليها بعين الازدراء والمقت، فإن هذا العمل يقطع من المسافات ـ أعني احتقار ونفي العجب عنها ـ إلى الله ما لا يقطعه صيام الهواجر، وقيام الليال ، وهذا مراد العبودية وبابها الأكبر وسرها الأعظم والله أعلم.
( كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)
الله واحد أحد في ربوبيته والوهيته واسمائه وصفاته وأفعاله، لا يشبه المخلوق ولا يشبهه المخلوق، لا يماثله أحد، ليس في ذاته شئ من مخلوقاته ولا في مخلوقاته شئ من ذاته، متفرد سبحانه فليس له سمي يسمي باسمه، ولا يحق لأحد أن يتصف بصفاته، ولا يصح لمخلوق أن ينازعه الألوهية ، او يساميه في الربوبية، أو يدعي لنفسه بعض صفات ربه جل في علاه، وإن أحسن وصف واصدقه ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله صلي الله عليه وسلم .
فالواجب الوقوف علي هذا، فإنه لا يعلم ما يستحق من التعظيم والتقديس والتنزيه إلا هو سبحانه، واعلم الناس به من الخلق رسوله ومصطفاه صلي الله عليه وسلم ، فمن أخذ وصف الله أو الخبر عنه غير الكتاب والسنة فقد ضل سواء السبيل، وإنما أخطأ من أخطأ من الطوائف المبتدعة والفرق المنحرفة لأنهم تركوا الوحي وكلام المعصوم وحكموا عقولهم السخيفة وآراهم الضعيفة في الغيبات؛ فأتي كلامهم فجاً معوجاً مضطرباً.
وهدي الله اتباع رسول الله صلي الله عليه وسلم إلى قوله الحق واعتقاده ، والله لا يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
هذه الآية ترد على أهل التشبيه والتعطيل والتكييف والتمثيل من اشاعرة وماتوريديه ومعتزلة وجهمية ، فهي ـ أي هذه الآية ـ تنفي عن الله كل وصف نفاه عن نفسه، وتثبيت كل صفة جميلة أثبتها الله لنفسه أو رسوله صلي الله عليه وسلم ، ولما نفي المشابهة واللماثلة عاقب بإثبات صفة السمع والبصر له سبحلنه ، لأن النفي المحض ليس مدحاً بل ينفي النقص ويثبت له الكمال ، فليس في النفي نقص وليس في الإثبات مشابهة أو مماثلة ، بل في النفي تنزيه عن العيب ، وفي الإثبات محجة بالجميل من الوصف، وهذه الآية هي عمدة أهل السنة في الرد على كل مبتدع ضال ومنحرف جاهل.
وانظر كيف عم النفي ليكون شاملاً، وذكر صفتين في المدح؛ لأن صفات مدحه كثيرة، ومنهج الوحي في وصف الله تعالي النفي المجمل إلا ما اقتضته الحاجة والإثبات المفصل إلا ما دعي إليه المقام فكل صفة لم يرد بها النقل مردودة ، وكل مشابهة أو مماثلة في الصفة الواردة ممنوعة، وكل سلب للصفة الثابتة مرفوض؛ لأن أهل الضلال أقسام، منهم من سلب الخالق كل صفة؛ فجعله والجماد سواء، وهذا اعتداء، ومنهم من وصف الخالق بصفات من عنده لم يأت بها النقل وهذا خطأ، ومنهم من أثبت البعض ونفي البعض وهذا تحكم مرفوض، ومنهم من اثبت وشبه فزل وضل، ومنهم من اثبت ومثل فجازف وجانب الصواب، وهدي الله أهل الحق إلى إتباع النقل والآثر ، فاصابوا واحسنوا والحمد لله رب العالمين.
( رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)
هذه من أعظم الدعوات إن لم تكن أعظمها، فإنها قد جمعت خيري الدنيا والآخرة، فحسنة الدنيا عامة شاملة، وأما حسنة الآخرة فأرفع ذلك الفوز برضوان الله ودخول جنته وجواره ومصاحبة أنبيائه ورسله وصالحي عباده في دار كرامته، والوقاية من عذاب النار وغضب الجبار، وما في ذلك المشهد من الخزي والعار، فصارت هذه الدعوة جامعة مانعة كافية شافية.
وفي الآية أوضح برهان على أنه لا يهب السعادة إلا الله عز وجل، ولا يجلب المحبوب ويصرف المرهوب إلا هو، فمن أحسن فيما بينه وبين ربه كفاه ما أهمه واضناه، واصلح باله واحسن حاله، ونجاه من أخذه الشديد وعذابه الأليم.
وفي الآية تعليم للعباد بأن يدعوا ربهم بحوامع الدعاء المشتمل على كل نفع، وعلى طلب دفع كل ضر، وأن العافية مع الشكر قد تفوق البلاء مع الصبر، وأن طلب السلامة من المصائب وارد، وأن خير الدنيا يطلب خير الآخرة؛ من متاع حسن ومال حلال، وطيب عيش ، وحلاوة عمر، وفي الاية أن وقاية العبد من عذاب النار من أعظم ما يطلب من الله عز وجل ، كيف وما أبكي الصالحين ولا أخاف الأولياء ولا أرق أهل الطاعة مثل تذكر عذاب النار؟! ولهذا قال سبحانه: (رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) وقال في حقيقة الفوز: ( فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَاز) وانظر إلى جمال كلمة حسنة في الموضعين، فإن كل أمر محبوب مرغوب؛ ولهذا فلا يقصر معناها على خير دون خير؛ لأن هذا تحكم إلا ما صح به الخبر، وما علمنا ربنا أن ندعوه إلا لأنه سوف يجيبنا إذا سألناه كما قال الشاعر:
لو لم ترد نيل ما أرجو واطلبـــه
من جود كفك ما علمتني الطلبا
فقد أمرنا ربنا بالسؤال ووعدنا الإجابة ، فليعلم تأثير الدعاء ونفعه العظيم ومرودوه الكريم على العبد وليقصد العبد إلى الدعاء بالمأثور الوارد في الكتاب والسنة، فهو المختار وهو الصح للعبد؛ لأن الذي علمه العبد هو الذي يعلم السر وأخفي.
(مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)
الحياة الطيبة تنال بأمرين: الإيمان والعمل الصالح، فمن آمن وعمل صالحاً نال مرتين حياة سعيدة رغيدة، وجزاء كريماً موفوراً في الآخرة.
ولكن كلمة : (حَيَاةً طَيِّبَةً) عجيبة ، فإنها فيها من الجمال والعموم ما تهش له النفس، فكل أمن وسكينة وسرور وحبور وصحة وأمن وأنس وطمأنية مع صلاح الأبناء واستقامة الحال وحسن المنقلب والعافية من كل مكروه؛ فإنها كلها من الحياة الطيبة، فمن أراد حياة طيبة بلا إيمان ولا عمل صالح فقد حاول المستحيل ، وطلب الممنوع.
وكيف ينال الحياة الطيبة من اساء المعاملة مع ربه الذي منه وحده تنال الحياة الطيبة ، فإن كل خير وصلاح اساسه التقوي، وإن كل شر وبلاء سببه المعاصي والآثام، وهذا معلوم من نص الشرع، قال سبحانه: )ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) وقال: ) فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) وقال: ) قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ ) فمن حقق الأصلين وهما افيمان والعمل الصالح سعد في الدارين وأفلح في الدنيا والآخرة، وما أروع القسم في قوله جل في علاه: ( فَلَنُحْيِيَنَّهُ ) فهذا وعد أكيد وخبر جازم وبري محققة.
وانظر إلى قوله: ( فَلَنُحْيِيَنَّهُ ) ، ما أحسن اختيارها ، فالذي لا يحييه الله كأنه ميت ولو عاش ، وهالك ولو عمر، وفي كلمة نحيينه من الجاذبية والأسرار والتشويق لهذه الحياة ما يأخذ اللب ويأسر القلب، وانظر كيف نكر الحياة لتكون عامة كاملة، وهذا تنكير تعظيم، وتحت كلمة حياة من الأسرار والمعاني ما يفوق الوصف، فإن هذه الحياة تشمل حياة القلب بالإيمان والهدي، فلا يموت أبداً يوم تموت القلوب، وحياة العقل بحسن الإدراك وصواب البصيرة وسداد الراي، وحياة الجسم بالعافية وحسن المعيشة، والسلامة من الآفات والنجاة من الكدر، والأمن من المتالف.
أقسم وهو أصدق القائلين على أنه سوف يجزيهم بأحسن منه، ولم يقل بحسن أو بخير او بجميل، بل قال بأحسن؛ بل قال بأحسن؛ لن في العمل حسن واحسن ، فالله يجزيهم بأحسن عمل عملوه، وتقاس بقية الأعمال على أحسنها ، فيثاب على أحسن صلاة صلاها في حياته، وتساوي بها بقية الصلوات، وهكذا سائر الأعمال، وهذا من كرمه وجودة وتفضله جل في علاه.
ثم أنظر إلى الجمع في الآية بين الذكر والأثي فيمن يعمل، والإيمان والعمل الصالح في العمل، والحياة الطيبة والأجر الأحسن في الثواب، فهي اثنان من اصناف ثلاثة ، فذكر الذكر والأنثي؛ ليعلم الجنس، والإيمان والعمل الصالح يشمل اصول العمل والحياة الطيبة، والأجر العظيم يستغرف كرامة الله لعباده.
( أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)
تطمئن القلوب من خوفها فتسكن إلى موعود ربها مع الثقة به، وحسن التوكل عليه، وصدق اللجوء إليه.
وتطمئن من حزنها فتجد الأمن من كل غم وهم وحزن، فتعيش راضية مرضية؛ لأنها بربها ومولاها راضية.
وتطمئن من قلقها فتستقر بعد التذبذب ، وتهدأ بعد التمزق، وتثبت بعد الاضطراب.
وتطمئن من الشتات، فيجتمع شملها، ويتحد توجهها ، ويلم شعتها،وتنجو من شتات أمرها.
وتطمئن من كيد شيطانها، وغلبة هواها، وتحرش أعدائها، وكيد خصومها، وشرور أضدادها.
فليس للقلب دواء أنفع من ذكر الله، فمهما حصل القلب علي مطلوبه ورغباته بدون ذكر الله فإن مصيره القلق والتمزق والفرق والخوف والغم والهم والحزن والكدر والاضطراب.
أبي الله أن يؤمن من عصاه، وأن يؤنس من خالفه، واتبع هواه، وكيف يطمئن من بينه وبين الله وحشة وبينه وبين خالقه قطيعة، وكيف يأنس من نسي مولاه، وأعرض عن كتابه، وأهمل أوامره، وتعدي حدوده.
إن طمأنينة القلب عي السعادة التي يسعي لها الكل، ويبحث عنها الجميع، فمنهم من خطبها عن طريق المال فجمع وأوعي، وحصل وكنز، فإذا المال بلا إيمان شقاء وإذا الحطام بلا طاعة وباء، ومنهم من طلب السعادة عن طريق المنصب فصب من أجله دمعة وعرقه ودمه، فلما تولاه بلا إيمان كان فيه حتفه وهلاكه وخيبته، ومنهم من طلبها عن طريق اللهو من غناء وشعر وهواية فما حصل عليها ولا نالها، لأنه عزلها عن عبودية ربه عز وجل.
فيا من تكاتفت سحب همومه اذكر الله لتسعد، ويا من أحاط به حزنه وأقلقله همه اذكر الله لتأنس، ويا من طوقه كربه وزلزلة خطبه اذكر الله لتأمن ، ويا من تشتت قلبه وذهب لبه اذكر الله لتهدأ ، ذكر الله دواء وشفاء وهناء، وذكر غيره داء ووباء وشقاء، ويكفي الذكر فضلاً أن الله يذكر من ذكره، ويكفي الذكر شرفاً أنه العلم الوحيد الذي يبقي مع أهل الجنة، ويكفي الذكر أجراً أنه أفضل عمل، الذكر حياة ولكن المبنج لا يحس، والمخدر لا يشعر، والميت لا يتألم ، والذكر أمن وسكينة ولكن العاصى مفرط، والفاجر هالك.
وفي كلمة (تَطْمَئِنُّ) رخاء ونداء وطلاوة ، فكأن القلوب كالأرض، فما سهل منها فهو المطمئن، وما صعب وشق فهو القاسي الموحش المقفر، فليت سحب الرضوان وغمام الرحمان تترك غيث الوحي على القلوب لتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها من الذكر والشكر والإنابة والمحبة والرهبة والرغبة: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ ).
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً)
يغرس لعباده الصالحين في القلوب محبة ووداً فيسري حبهم في الأرواح، وتنطلق الألسنة بالثناء عليهم، ويوضع لهم القبول في الأرض ، ومالك الحب هو الله، ومفاتيح القلوب بيد الله، فإذا فتحها لمحبة عبد وجدت محبته وحملت مودتته، إن حب الخليقة الصالحة دليل على حي الخالق جل في علاه، وإن القبول في الأرض دليل على القبول في السماء ، والناس شهداء لله كما صح به الحديث، فمن أحبوه وودوه واثنوا عليه خيراً فهو خير بار راشد، ومن كرهوه ومقتوه وأبغضوه فهو شرير خاسر.
إن القلوب خزائن الرحمن، وإن ألسنتة الخلق أقلام الحق، وإن المؤمنين شهود عدول على من أحبوه أو أبغضوه ، إن لمحبة التاس أسباباً ، ليحبوا من أحبوه كصدق إيمانه بربه، وطهارة باطنه، ونقاء نفسه، وسلامة صدره، وقوة إخلاصه.
وإن لبغض الناس أسباباً ليبغضوا من أبغضوه : من نفاقه وفجوره واستهتاره بحدود الله، وتنكره لدين ربه، وظلمة وجوره، وسواد قلبه، وفساد روحه ، وخسة طبعه.
إن من يملك الأبدان لا يملك القلوب، وإن من تنافقه الألسن قد لا تحبه الأرواح، إن السوط والسيف والهيبة لا تجلب حباً ولا تدفع كرهاً، وإنما الجالب للمحبة والدافع للبغض رب العالمين، محبة العباد لا تشتري بالدرهم والدينار، ولا تعرض في الأسواق، ولا ينادي عليها في المحافل ، إنها نعمة يهبها الله من يشاء من عباده ،فتجد هؤلاء المحبوببين محفوفين بالمحبة، مستقبلين بالمودة، مغمورين بالثناء الحسن، إن حضروا حيتهم القلوب، وإن سافروا شيعتهم الأرواح، فلهم مساكن في نفوس العباد، ومنازل في قلوب الخلق ، رحمة من ربك ولطفاً من إلهك، صح في الحديث: (( إن الله إذا احب عبداً دعاء جبريل فقال له: إني احب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض عبداً قال لجبريل : إني أبغض فلاناً فأبغضه، فيبغضه، ثم ينادي أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً فابغضوه ، ثم يوضع له البغض في الأرض))،.
إذا فالحب والبغض من عند الله، فمن أراد محبة في قلوب الخلق ومودة عند المؤمنين فليطلبها ممن يملكها، جل في علاه، بطاعته والإذعان لأمره، واتباع رسوله، والاهتداء بهدايته، وصدق النصح لعباده، وسلامة النية، وحسن الطوية ، وطهر الضمير، حينها فليبشر بحب الله له ومودة المؤمنين.
(َمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1)عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ)
عن ماذا يتساءل هؤلاء الناس ولماذا هم مختلفون ؟! إنهم يتساءلون عن اليوم الآخر الذي ما سمع الناس بمثله وما طرق العالم شبيهه، وهؤلاء الكفار المختلفون لهم أقوال فيه، ولكنه والله نبأ عظيم، وخبر ضخم، وقصة كبري ، كيف لا يكون نبأ عظيماً وفيه يتنزل الملك الجبار لفصل القضاء، وفيه ااطاير الصحف ويوضع الميزان ، ويمد الصراط، وفيه تكور الشمس وتكدر النجوم، وتسجر البحور ، وتسير الجبال، وتحشر الوحوش، وتعطل العشار، وتخرج النفوس، وتضع كل ذات حمل حملها، وتذهل كل مرضعة عما أرضعت ، وتري الناس سكاري وما هم بسكاري، ولكن عذاب اللله شديد.
والله سمي زلزلة الساعة شيئاً عظيماً، فلا اعظم ولا أدهي ولا أشد منه، فمثل لنفسك تلك المشاهد والصور والمواقف التي تجعل الولدان شيباً، وحضر قلبك لهذا المقام العظيم الذي سوف تعيشه لحظة بلحظة، وتراه رأي العين، فلا فدية ولا خلة ولا شفاعة إلا لمن استحقها، واستشعر هول ما سوف تشاهده وفظاعة ما تراه، فإن الرسل يسألون ماذا اجبتم؟ قالوا: لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب؛ فكأنهم نسوا ماذا قال لهم قومهم من هول المقام وفظاعة الموقف.
وتذكر يوم يطلب الوالد من ابنه ـ وقد رباه وغذاه وكساه ـ حسنة واحدة فيأي ويمتنع ، ويقول : نفسي نفسي، وتأتي الأم لوحيدها وتطلب من وليدها، وقد حملته وأرضعته وتعاهدته، تطلب منه حسنة فيبخل بها على أمه وينادي: نفسي ، نفسي، وتفكر في موقف كل رسول وهو، معصوم من اذلنب، مقبول عند الرب، يصيح: نفسي، نفسي، ذلك اليوم عسير، والخطب صعب، والحاث جلل، والمشهد مذهل، والوصف يقصر، والبيان يعجز، واللسان يتعلثم ، والذاكرة تخون، ومن أراد معرفة ذاك اليوم فليطالع بقلب مخبت منيب تائب ما ذكر الله عنه في كتابه ، وما وصفه رسول الله صلي الله عليه وسلم بعد أن يخرج هذا العبد من قلبه كل شبهة تحجب الدليل ، وكل شهة تمنع الاعتبار، فإن العجمماوات تصيح من هول يوم القيامة، وإن الجبال تنسف لذلك اليوم ، وإن الأرض تميد، وإن السماء تنشق، وإن القبور تبعثر، وكل شئ يغير فاللهم سلم سلم، فإليك المشتكي، وعليك التكلان، وبك المستعان، وأنت المستغاث، ولا حول ولا قوة إلا بك.
(ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ )
بذنوب العباد فسد الهواء، بخطايا الناس تكدر الماء، بسيئات بني آدم تعطلت الأرزاق ، كان آدم في الجنة فاكل من الشجرة، وأهبط إلى الأرض لتبدأ رحلة الصراع بين الخير والشر والحق والباطل، ولقد كانت الأرض طاهرة حتى لوثها قابيل بدم هابيل، وكانت الدنيا تستفيق على صوت التوحيد حتى أزعجتها اصوات الإلحاد من الحمقي الأنذال الذين يقول أحدهم: أنا أحيي واميت إلى آخر تلك القائمة الزائفة ااشوهاء من هؤلاء الرقعاء السخفاء، فكل خراب في العالم اساسه ظلم العباد، ، وكل دمار في الكون سببه جور الناس على حد قول أبي طالب:
كلمـــــا أنبت الزمــــان قناة
ركب المرء في القناة سنانا
إن خطايا الخلق تظهر في عقوبات الإله، يجدها الإنسان في الكون من احتباس القطر، وهوج الريح، وقصف الرعد، وهيجان البحر، وغلاء الأسعار، وجور الحكام، وظلم القضاة، وشح الموارد، وحدب الديار، وفساد الثمار، وذبول الأشجار ، وتعكير الجو؛ لأن الذنب مشؤوم ، والخطيئة عقيمة، والسيئة قاتلة.
كيف تصلح الأرض وقد أغضب من في السماء، كيف يسعد المخلوق وقد خالف الخالق، كيف تقوم للناس حياة وواهب الحياة سبحانه يعصي ويتجاهل أمره.
إن سنة الله في الدول والشعوب والناس لا تتبدل، فمع العدل والتقوى يسعد الناس ، وتدور ا{زاق، وتتوفر الأقوات، وتقوم السواق، وتسكن الفتن، ويعم الأمن، ومع الظلم والمعاصي يحصل الخلل في كل شأن من شؤون الحياة، كما تقدم.
فانظر إلى عصر رسول الله صلي الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، فإنها الفترة الزمنية الزاهية الذهبية في حياتنا، إنها غرة في جبين الدهر، ودرة في تاج الزمان، وبدر في ليل العالم لما حصل في زمنهم من عزة للدين، وطاعة لرب العالمين،وقيم بكل ما يرضي الله من قول وعمل واعتقاد.
ثم انظر إلى عصر الحجاج وأبي مسلم الخرساني والفاطميين والإسماعلية، وكل ظالم وزنديق ومارق وعدو لله، كيف سفكت الدماء، وهتكت الأعراض، ونهبت الأموال، وسلب الآمن، وضاعت الأمة، وعمت الفتنة، وتفاقم الحال، وساءت المعيشة، وعمت البغضاء، وانتشر التقاطع، وظهر الخلاف، وبرز الشقاق، وبزغت البدع، وتواري العدل، وغرب الفلاح وما ربك بظلام للعبيد.
(ِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ )
من النفس يبدأ التغيير، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، البداية من داخل العبد، من صلح حالة بقيت نعمته، ودامت عافيته، واستمر الهدي معه: )وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ) ومن فسد وأعرض حلت به النقمة، وادبرت عنه النعمة، ونزل به الشقاء: ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) .
من أراد ما عند الله من العناية والكفاية والهداية فعليه أن يشرح صدره للحق الذي بعث به محمد صلي الله عليه وسلم ، ويتقبله بقبول حسن، ويجاهد في الله حق جهاده، كما هي تمام النصح لله والرسول وللمؤمنين ، مع سلامة الباطن، والتقيد بتعاليم الشرع، وصدق الهجرة إلى الله، بتوحيده وشكره وذكره وطاعته ، ومن تعرض لمقت الله وغضبه بتعطيل أمره، وتفريغ نصوص وحيه من محتواها ، والإدبار عن التقوي، والانحراف عن الجادة، والزيغ عن الحق، والتفلت على حدود الله، فليبشر بعذاب واصبن ونكد حاضر، وشقاء لازم وهم دائم؛ جزاء تنكره للحقيقة؛ وشططه في سلوك الطريقة، وبغيه وعدوانه ولا يظلم ربك أحداً.
هل يظن العبد أن الهداية سوف تطرق عليه بابه وتسأل عنه في مضجعه، كلا فالهداية يبحث عنها في مظانها في كتاب الله المشرق المغدق النير، في السنة المطهرة النقية المباركة ، في الصف الأول من بيوت الله حيث النفحات هناك والعناية واللطف ، في خلع أسمال الباطل ، في التبرء من المعتقدات الخاطئة، والشبهات المهلكة، والشهوات القاتلة، في العكوف على الوحي كتاباً وسنة ومدارسة وفهماً وتدبراً وعملاً ودعوة وجهاداً.
إن سلعة الله غالية لا يعرضها الباعة في أسواقهم، ولا ينادي عليها التجار في متاجرهم، إنها أغلي وأعلى من هذا الامتهان، إنها ثمينة يستاهلها من طلبها وحرص عليها وجاهد من أجلها، وبذل الغالي والرخيص لينالها، ودفع نومه وعرقه ودمعه وروحه ثمناً لها، حينها تزف له أجمل ما تكون في أبهي حلل وأزهي لباس وأعظم تاج.
لما غير بلال بن رباح العبد الفقير نفسه واستقبل الهدي؛ توج بتاج مؤذن الإسلام ، وصاحب الرسول صلي الله عليه وسلم ، وضيف الرحمن في الفردوس.
ولما غير أبو جهل الوجيه المشهور ما في نفسه، وقلب بصيرته، وانسلخ من فطرته؛ أهين وأرغم أنفه، وذاق المذلة، وأدركه الخزي عاجلاً وآجلاً.
إن علي العبد أن يبدأ هو برحلة النجاة وهجرة الإنقاذ ، ويركب في سفينة الحق لئلا يدركه طوفان الغضب فيغرق مع من غرق من المردة الملعونين.
(إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ )
هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم من المعتقدات والأقوال والأفعال والأحوال والأخلاق والآداب والسير، فهو يدل علي الأكمل والأحسن دائماً، فكلما اشتبهت الأمور واختلطت الآراء وماجت القلوب ، جاء القرآن بهداه وستاه، فهدي إلى الأرشد، ودل على الأتقي والأسمي.
لماذا القرآن وحده يهدي للتي هي أقوم؛ لأنه من فوق، وكتب البشر من تحت، ولنه من السماء، ومذكرات العبيد من الأرض، ولأنه من رب العالمين، أما هي فمن الطين، ولأنه من عند الله، وآراهم من أفكارهم المضطربة وقلوبهم الزائغة، فالذي أنزل القرآن هو الخالق، والذي صن ما يعارضه مخلوق، وعظمة القرآن في أن من تكلم به أحكم الحاكمين، وأحسن الخالقين، وخالق الناس أجمعين، فكيف لا يكون كلامه فوق كل كلام، وهداه أعظم من كل هدي ؛ لأنه عليم خبير بصير، ومن سواه جاهل غبي إلا من اهتدي بهداه، فبقدر اهتداء العبد بهذا النور يحصل له من سداد الرأي ونور البصيرة على قدر ما بذل وطلب واستفاد.
فالقرآن يهدي للتي هي اقوم في المعتقدات، فهو يدعو للتوحيد الصحيح، والدين الخالص، والعبادة المعتدلة، وهو يهدي للتي أقوم في الحكم، من حيث العدل والإنصاف ، ومراعاة الحقوق، والبعد عن الظلم والهضم والقهر والاستبداد ) فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَق) وهو يهدي للتي هي أقوم في الأخلاق؛ فهو يدعو إلى طهر الضمير، وزكاء النفس، وسلامة الصدر، ونقاء اللسان ، وعفاف الخلق، ومكارم الصفات، وأشرف الآداب : )خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) .
وهو يهدي للتي هي أقوم في البيع والشراء، وسائر العقود، وكافة المنافع ، فلا غش ولا غرر ولا نجش ولا ربا حيلة ولا خديعة ولا غبن ولا تدليس ) وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا ) .
وهو يهدي للتي هي أقوم في المعيشة والكسب والإنفاق والبذل، فلا إسراف ولا تقتير ، ولا ولا بذخ ولا شح ولا إمساك ولا تضييع )وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً).
وهو يهدي للتي أقوم في الدعوة والإصلاح والتربية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا غلظة ولا فظاظة ولا مداهنة ولا تمييع، بل حكمة ولين ورفق ورشد وهدي: )ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ )
وهو يهدي للتي هي اقوم في الآداب والفنون، فلا تعد على الحدود، ولا استخفاف بالقيم، ولا تلاعب بالمبادئ ولا جفاف وجمود وجحود ورهبانية، وإنما جمال لاحتشام، ومتعة بأدب، وذوق بعفاف، وحسن بالتزام: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) .
(يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ )
واجب على من أقبل على الدين أن يقبل عليه بهمة وحرص، وان يبذل جهده في التمسك به وحمله بأمانة وإن تلقي الأمر بكسل وبرود برهان على موت الهمة ودناءة النفس، إن الضعيف مضطهد، وإن القيام بشعائر الدين على صورة من الترهل والهزال؛ دليل على عدم المحبة والاقتناع.
إن الصلاة المقبولة تحتاج إلى قوة في حضور القلب وخشوعه، واستحضار النية، ومحاربة الوسوسة وواردات النفس، وإن التلاوة الصحيحة تحتاج إلى قوة من حيث حسن التدبر وجميل التأثر ومدافعة الشرود، وإت الدعوة إلى الله تحتاج إلى قوة في جمال العرض، وبلاغة الوعظ، والإبداع في الخطاب، والصدق في النصيحة: ) وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً) .
إن المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف؛ لأن المؤمن القوي قوة للدين، وهيبة للملة، فعطاؤه أكثر ، ونفعه أوفر ، الكلمة القوية تهز القلب، وتهش لها النفس ، وتؤتي أكلها من الاستجابة والمتابعة ، وإن الحجة القوية تدفع الباطل وتدحض الشبهة، وإن الكتاب القوي يكسب الخلود والذيوع، والانتشار.
القوي يصمد في الأزمات ويثبت في المصائب، ويدافع عن مبادئه وينتصر لدينه، والضعيف يغلب عند أقل الحوادث ، وينهار في ميدان الكفاح، فيؤتي افسلام من قبله، ويدخل العدو من بوابته.
شبهة لا تردها قوة يقين تصبح كفراً، وإلحاد لا يردعه إيمان يصير ديناً للمنحرفين ، وشهوة لا يدمغها قوة صبر تحول العبد إلى بهيمة وكسل.
ماذا ينفعنا مؤمن ضعيف كسول خامل؟ وماذا يجدي علينا جيل بائس محطم غارق في الشهوات؟ وهل يصنع النصر على أيدي جبناء أغبياء، وهل يصاغ النجاح بأماني كاذبة، ووعود خائبة، وظنون خداعة.
إن صلاة الفجر لا تدرك إلا بعزيمة ونشاط، وإلا انهزمت النفس تحت مطارق النوم والراحة؛ ولذلك صح أنه صلي الله عليه وسلم إذا سمع الصارخ وثب للصلاة ليلاً، بلفظ وثب لتعي مدلولها وسرها.
لقد استعاذ عليه الصلاة والسلام من العجز والكسل ، فالعجز في الإرادة، والكسل في الحرم، وهما مصدر كل فشل وإخفاق ، إن الله ثبط المنافقين لأنهم لو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة، ونصر الله المجاهدين ؛ لأنهم صبروا وثبتوا وتقدموا، وهذه سنة مطرودة : )وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ) .
يقول عمر بن الخطاب فاروق الإسلام: ( اللهم إني أعوذ بك من جلد الفاجر وعجز الثقة)، ففاجر مصابر وتقي منهار مصيبة؛ لأن الفاجر الفاتك النشيط شيطان مريد، والتقي الخامل العاجز المقصر؛ جبان رعديد ، والإسلام يريد رجلاً قوياً حازماً بصيراً:
لا يدرك المجــــد إلا سيــد فطن
لما يشق علــى السادات فعـــال
لا خامل جهلت كفــاه مـا بذلــت
ولا جبـــان بغير السيف سـأل
لولا المشقــــة ساد الناس كلهم
الجــود يفقــر والإقدام قتــال
نريد عالماً ربانياً قوياً؛ لأن الضعيف يغلبه الوهم وينتصر عليه الظن، ولا يؤدي الأمانة كما هي، ونريد فقيهاً قوياً لأن الضعيف لا تمييز عنده، ولا برهان لديه، ولا فرقان يحمله.
ونريد مجاهداً قوياً؛ لأن الضعيف مسحوق مخذول يؤتي الإسلام من قبله، فإذا اجتمع في العبد قوة وأمانة وتقوى وعزيمة ومراقبة وصرامة فهو الرجل حقاً: (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) .
(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُم)
تعظون الناس ولا تتعظون ، تنصحون الناس ولا تنتصحون ، تأمرون بالمعروف ولا تأتونه، وتنهون عن المنكر وترتكبونه، قولكم جميل، وفعلكم قبيح، النطق حسن، والفعل سيئ ، تزكزن الناس بكلامكم وأنفسكم مقفرة من البر، موحشة من الهدي، يستنير الناس بوعظكم الخلاب ونصحكم الجذاب ، وأنتم في ظلمة المعصية واقفون، وفي ليل الخطايا حائرون، إن من أعظم النكبات على دين الله إخفاق حملته ودعاته في العمل بتعاليمه، حينها يصبح فعل هؤلاء حجة قاطعة لكل مارق ، وبينه واضحة لكل منافق يرتكب المعصية ، بدليل فعل هؤلاء السيئ ، وترك الطاعة بدليل عمل هؤلاء الخاطئ ، فلا يثق الجهلة بنصوص الشرع، لأن أناساً ممن يحملون هذه النصوص عطلوا العمل بها والاهتداء بهديها والانتفاع ببركتها.
الطبيب إذا تناول السم أمام المريض كيف يثق فيه المريض أو ينتفع بدوائه وعلاجه؟
وغير تقي يأمـــر الناس بالتقي
طبيب يداوي الناس وهو عليل
الخياط إذا مزق الثوب فقد مصداقيته في الخياطة ، النجار إذا كسر الباب خسر ثقة الناس في معرفته وحذقته، والدعاة إلى الحق والفضيلة إذا أهملوها وهجروها غسلت الأمة أيديها منهم، يصبح كلامهم الرنان رماداً تذروه الرياح، يصبح وعظهم البليغ منقوشاً، تصبح كتاباتهم وتآليفهم ركاماً من الزيف والغش والبهرجة.
وحمل الرسالة بالذات أمناء على الملة، أوصياء على الجيل، حفاظ للمبادئ ، فأي عثرة منهم ثلم في جدار الشريعة ، وحرج في جسم الديانة.
إن الربانية في العلم والدعوة ليست عمائم كالأبراج، والأكمام كالإخراج، والفتاوى معلبة جاهزة ترضي أهل الشأن، ويكسب من ورائها الدرهم والدينار، والمنصب والعقار(( يؤتي بالرجل فيدور في النار فتندلق أقتابه كما يدور الحمار برحاه، فيقول أهل النار؛ مالك يا فلان؛ ألست كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر ، قال: بلي ، كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه ، وانهاكم عن المنكر وآتيه، هكذا وصف المعصوم صلي الله عليه وسلم هذه الفئة ومصيرها عند الله عز وجل، وأحد الثلاثة الذين تسعر بهم النار يوم القيامة، قارئ قرأ القرآن ولم يعمل به.
إن حفظ المتون، وجمع الفنون، وإلقاء الخطب الرنانة، والجلجلة بالمواعظ الطنانة، سهل يسير ، يجيده الجمع الغفير، ويقوم به الكثير، لكن تطبيق هذه التعاليم والعمل بها، وتنفيذ أوامرها ، واجتناب نواهيها، والصدق في حملها، ومراقبة الله في دلالتها أمر شاق صعب متعب لا يقوم به إلا ربانيون طهرت أرواحهم ، زكت أخلاقهم ، حسنت سيرتهم، وصفت سريرتهم:
يا أيهــا الرجل المعلم غيـــره
هلا لنفسك كـــان ذا التعليم
أبدأ بنفسك فانهها عن غيهــــا
فإذا انتهت عنه فــــأنت حكيم
يا أيها الدعاة إلي المبادئ المقدسة، يا حملة الرسالة ويا أمناء الكلمة، لم تقولون ما لا تفعلون.؟! فقهاء في القول، جهلة في الفعل، أولياء على المنبر، عتاة في الميادين.
إن دمعة من خاشع اصدق من مائة خطبة من واعظ، وإن قطرة من شهيد أبلغ من مائة قصيدة حماسية من شاعر، وإن غضبه لله من عالم أوقع في القلوب من مائة درس في النهي عن المنكر.
إن أعظم ما يفعله صاحب الدعوة أن يكون سراجاً وهاجاً بعلمه وصدقة وإخلاصه وخلقه، إن فرعون قال: ) مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ) ويشهد الله أنه كاذب خبيث ماكر، والمنافقون قالوا: نشهد إنك لرسول الله، فقال الله: ) وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) والرعديد الجبان يقول في غزوة تبوك: (( أئذن لى ولا تفتني)) أي أخشي على نفسي الفتنة إذا غزوت الروم من فتنة النساء، فيقول الله: ) أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا ).
إن مصيبة أحبار اليهود ومن شابههم من هذه الأمة أنهم تعجلوا ثواب علمهم في دنياهم الفانية الزهيدة، ارضوا الناس بسخط الله فطوعوا النصوص لشهواتهم ، ولووا أعناق الأدلة لأهوائهم، إن خدم الدليل مقاصدهم فهو ثابت محكم صريح، إن عارض الدليل أغراضهم فهو محتمل مؤول له وجوه وله معان أخري، إن وقعوا في ملذات الدنيا استدلوا بقوله: )قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ) إن تركوا الأمر والنهي والقيام لله ذكروا الحكمة والرفق واللين، إن سعوا للمناصب والجاه أوردوا قول يوسف عليه السلام: )قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) والله عز وجل لا يلعب عليه كما يلعب على الصبيان، ولا يخادع كما يخادع الولدان، فهو العالم بالسرائر ، المطلع على ما في الضمائر، العليم بالنيات، الخبير بالخفيات: )يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) .
ويلكم من الله: معكم كتاب من الله فيه الهدى والنور وأنتم تعلمون ما فيه فهلا زجركم علمكم بالكتاب عن فعلكم المشين؟! هلا أثر فيكم هذا الكتاب الذي تدرسونه لأن العالم بحجة الله ليس كالجاهل بها، والمطلع على شرع الله ليس كالغافل عنه.
إن العلماء إذا أعرضوا وفسدوا كانوا أكثر إساءة، واكبر معصية من الجاهل الغر الذي ما استضاء بالعلم.
فيا من تعلم العلم وتلقن الحكمة ثم اعرض عن العمل إنما أنت شاهد على نفسك، ساع في هلاكك؛ لأن المنتظر والمأمول من صاحب العلم تقواه لمولاه، وسعيه في رضا ربه ومحافظته على ما في الكتاب، ثم سألهم سؤال توبيخ وتبكيت فقال: ) أَفَلا تَعْقِلُونَ).
أين العقول السليمة ؟ أين الآراء السديدة؟ أخفقتم في النقل، أعرضتم عن الكتاب ، وفسدتم في العقل فعرضتم أنفسكم للعذاب، إن العاقل يدله عقله على الهدى ويجنبه الردي، وإن من اثر العذاب على الرجمة، والغواية على الرشد لفاسد العقل، سيئ التدبير، غائب الرشد، ولو كان محنكاً في أمور الدنيا، داهية في طرق السياسية ، ماهراً في الكسب، ذكياً في المعيشة.
(إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ)
كلمة (رَبَّكَ) إشعار بالرعاية، وسابق المنة، وقدم النعمة، فإن من رباك سيظهرك على من عاداك، ( وبالمرصاد) فيها من التخويف والتهويل ما يبهر الألباب، ويخلع النفوس، فهو سبحانه يخفي مكره عن أعدائه حتى يترصدهم فيأخذهم عى غرة، فإن عذابه بغته، وعقوبته فجأة، فخو بالمرصاد لأعدائه يبرمون وينكث ما أبرموا، يدبرون فيقتل ما دبروا، والراصد دائماً أقدر على البطش من المكشوف لعدوه، لأن عنده من فنون الحيل وصنوف المباغتة وأنواع المداهمة ما يبطل على الخصم حيلة، ويعمي سبله ، ويظهر خلله.
وقل لي بربك: أي زلزال هذا التهديد لكل كافر رعديد إذا كان الله بالمرصاد ، لقد أمر الله عباده أن يقعدوا لأعدائه كل مرصد، وأخبر أنه أعد للجن المردة شهاباً رصداً، لكن لما وصف نفسه الجليلة قال: (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) وهذه الكلمة تصلح عنواناً لكل موعظة، ينذر بها العصاة؛ لأنها عامة مخيفة مرعبة، فخو بالمرصاد لمن نقض العهد، وأخلف الوعد، وفجر في الخصومة، وخان الميثاق ، وهو بالمرصاد لمن ترك الطاعة، وارتكب المعصية، وتعدي الحدود، واقترف المحرمات، والله مرصد لأعدائه ويحبك لهم نهاية البؤس، وخاتمة الدمار وطريقة المصرع، وكيفية الأخذ ، فلا يلعب أحد على نفسه فينخدع بحلم الرحمن الرحيم، فإنه يمهل ولا يهمل ، وليعلم كل عبد أن ربه مطلع على أعماله، عالم بأحواله، بصير بمآله.
إن أحمق الناس من غرته نفسه، وخدعه هواه، وزين له الشيطان طريق المعصية حتى وقع في الفخ.
(قُتِلَ الْأِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ)
ما اشد تنكر هذا الإنسان لربه، وما ‘ظم جحوده لخالقه، خلقه ربه من العدم فشك في وجود ربه، واطعمه من جوع فشكر غيره، وأمده بالقوة فعصي بها مولاه، هذا الإنسان إن لم يهتد بهدي الله فهو كنود، يمرض فيشخع، فإذا شفاه ربه نسي وتكبر، يفتقر فيخضع، فإذا أغناه الإله طغي وبغي، يبتلي فينكسر ويدعو، فإذا عافاه خالقه تجبر وعتي، عنده آلاف النعم فيكتمها ويطلب غيرها، لديه مئات المواهب فيجحدها ويسأل سواها، ثقيل على الطاعة، خفيف إلى المعصية، بطي عند الأوامر، سريع عند المناهي، قدري في الطاعة ، جبري في المعصية ، يتلهف على المفقود، ولا يشكر الله على الموجود.
سماع الأغاني أخف عليه من سماع المثاني، سهرة لهو أحب إليه من ساعة مناجاة، رفقة البطالين اشهي لديه من صحبة الصالحين، يأكل الطعام ولا يشكر من أطعمه، ويشرب الشراب ولا يحمد من سقاه، النعم تغمره من كل مكان وهو في شرود ونسيان، خلقه ربه فعبد سواه، وأمره ونهاه فاتبع هواه، لو أهدي له مخلوق خميلة لشكرها، كل نعمة لديه من ربه قد كفرها، يحبر القصائد في مدح العبيد، ولا يمدح ذا العرش المجيد، يسطر المقامات في الثناء على المخلوق الهزيل، ولا يسطر مقامه في الثناء على العزيز الجليل، يقف على أبواب البخلاء، ولا يقف على باب رب الأرض والسماء، مع العلم أنه لا يصله منهم ذرة إلا بقدرة الملك الحق، وبمشيئة الغني الحميد، يمنحه رب المال، فيقول : إنما أوتيته على علم عندي، يوليه ربع قطعة من ارضه فيقول: أليس لى ملك هذه الأرض، بقوتي ملكت وبقدرتي حكمت، يهبه ربه قوة الأعضاء وصحة الجسم فيركض مغروراً ويقترف الخطايا مسروراً.
إذا كان له عند ربه مسألة ذل وتمسكن حتى ينالها، ثم يمر متكبراً جاحداً، إذا أصابته رزية بكي وشكي وتأوه، فإذا كشفها الله ذهب مختالاً فخوراً، إذا جاع انكسرت نفسه، فإذا شبع سهي ولها ولغي، يأكل بلا حمد، ويشرب بلا شكر، ويسكن بلا ثناء، وين\تنعم بلا اعتراف، يمن على ربه ركعات بلا خشوع، وتلاوة بلا تدبر، وصدقة بلا نية، ولا يحفظ لربه نعمة الحياة والرزق والمال والولد، والعينين البصيرتين، والأذنيين السميعتين ، والشفتين واللسان واليدين، والأنف والرجلين، تصب عليه النعم صباً، وتنهمر عليه العطايا انهماراً وهو لئيم مريد عنيد.
على من تلعب يا كفور، ومن تخادع يا مغرور، إن صلي سهي ، وإن قرأ لها، وإن تكلم لغا، يأخذ ولا يعطي ، يحفظ عدد النعم ووصفها ، وينسي شكرها والثناء على من أهداها، جماع مناع طماع، إن مرض حسب أيام المرض ولياليه وساعاته، وإن تعافي نسي شهور العافية وأعوامها، إذا أعطي درهماً فهو مثل أحد عنده، وإن أعطاه ربع قنطاراً النبي صلي الله عليه وسلم ذهب فهو ذرة في ميزانه، إلا من آمن وشكر، واحسن وصبر، وأطاع وذكر.
(اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض)
هذا اصدق مدح لربنا جل في علاه، فالله نور هذا العالم، فكل نور يشع فمن نوره جل في علاه، فالقلوب في ظلمة حتى يصلها نور توحيده، والبصائر معتمة حتى يطلع عليها نور هدايته، والعالم في دياجير الظلم حتى يشرق عليها نور ربه، فالنفس النيرة إنما استنارت بنور الله لما عرفت شرعه وأبصرت هذاه، والعقل النير إنما فتح عليه لما اصابه حظه من نور الله، والكلمة السديدة إنما حسنت وجملت لما اضاءت بنور ربها ، والفعل الحسن الراشد إنما صلح لأن الله وهبه من نوره، والمجتمع المستنير إنما استقام أمره لما أدركه نور من نور ربه ، فكل نور في العقول والنفوس والأفئدة فمن الملك الحق، فبنوره اشرقت السماء والأرض، وصلح أمر الدنيا والآخرة، واستقام الحال، وطاب المآل ، وكتبه سبحانه نور يبصر بها العمي، ويهدي بها الضلال، ويرشد بها أهل الغي، ورسله نور يبعثهم بالحق فينقذون بإذنه من الهلاك، ويردعون من الردى، وينجون من المعاطب، وصراطه المستقيم نور به يهتدي المهتدون، وعليه يسير العابدون، وفيه يسلك الصاقون، ومن أهل العلم من قال في قوله تعالي: )اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض) قال : منورهما يعني الشمس والقمر والكواكب ، ور تعارض، فكل نور معنوي، أو حي ظاهر أو باطن فمن لدن لحكيم الخبير جل في علاه.
فليطلب النور من عند الله فإن كل أرض لا يشرق عليها نوره فهي أرض ملعونة، وكل قلب لا يبصر نوره قلب غاو، وكل نفس لم تهتد بهداه نفس خاوية، العالم إذا لم يهبه الله من نوره صار عالم سوء، وصاحب زور، وحامل بهتان،والحاكم الذي حرمه الله نور غادر جبار، غشوم ظلوم ، وكل عبد حرم نور ربه فقد تم خسرانه وعظم حرمانه.
أعظم حصائص القرآن أنه نور؛ لأنه من عند الله جل في علاه، فهو الذي تكلم به وأوحاه، وفصل آياته، وأحكم بيناته: )ُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا) ومحمد صلي الله عليه وسلم نور؛ لأن الله بعثه ووهبه من نوره وهداه بهداه )ُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا) ومحمد صلي الله عليه وسلم نور؛ لأن الله بعثه ووهبه من نوره وهداه بهداه (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً).
وبقدر اهتداء العبد ومتابعته وصدقه في طاعته يمنحه ربه نوراً من نوره يبقي معه حتى يصل به إلى جنات النعيم.
والمؤمنون لما صدقوا في العمل بالكتاب واتباع الرسول صلي الله عليه وسلم جعل الله نورهم يسعي بين ايديهم جزاء وفاقاًن ولما أعرض من أعرض من أعداء الله حرمهم الله ذلك النور فبقوا في الظلمات فما لهم من نور، فنور الفطرة مع نور الهداية، ونور الكتاب مع نور الرسول ، ونور البصيرة مع نور الحجة ) نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ) ( وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ).
(وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ )
فقدرة عظيم ، ووجه كريم، وفضله واسع، وجوده شامل، ولكن العباد ما قدروا الله حق قدره، خلق الخلق وتكفل بالرزق، وحفظ النفوس، واطلع على السرائر ، وعلم النيات، ولكن الناس ما قدروه حق قدره.
عفا وكفا وشفا، وشفا، علم وحلم وحكم، أغني وقني وأعطي، ساد وجاد وهو رفيع العماد، ولكن الخلق ما قدروه حق قدره.
الأرض جميعاً قبضته، والسماوات مطويات بيمينه، والكون ذرة في ملكه، والخليقة فقيرة إليه، ولكنهم ما قدروا الله حق قدره.
من اشرك معه غيره، وعبد معه سواه، وادعي له نداً، واخترع له مثيلاً، وجعل له شبيهاً، فما قدره حق قدره.
من أقسم بغيره، أو أعطي به وغدر، أو حلف به وفجر، وأخذ نعمه فما شكر، ونسيه وما ذكر ، فما قدروه حق قدره.
من تعدي حدوده، وارتكب محرماته، واستهزأ بىياته، وألحد في اسمائه وصفاته، فما قدره حق قدره.
من حارب أولياءه، وناصر أعداءه، وعصي أمره، وغمط بره، واستهان لعظمته، فما قدره حق قدره.
من أعرض عن كتابه، وشاق رسوله، وكذب بلقائه، وتهاون بوعده ووعيده، فما قدر الله حق قدره.
حق قدره أن يطاع فلا يعصي، ويذكر فلا ينسي، ويشكر فلا يكفر، ويحب حباً يملك على العبد كل حركة فيه.
حق قدره أن يفوض الأمر إليه، ويتوكل عليه، ويرضي بحكمه ، ويستسلم له، وينقاد لأموامره، ويذعن لقضائه.
حق قدره أن لا يخالف، ولا يحارب، ولا يمثل، ولا يشبه، ولا يكيف، ولا تضرب به الأمثال، وتصرف لغيره الأعمال.
حق قدره ان يقصد بالسعي، ويخلص له العمل، ويجرد له التعظيم، ويفرد بالربوبية والأولوهية والأسماء والصفات.
حق قدره أن يرضي به ولياً ورباً وألهاً وحاكماً وكفيلاً ووكيلاً وحسيباً؛ لأنه وحده المتفرد المتوحد، وهو الأحد الصمد ، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد.
أشرك بع أعداؤه وحاربه خصومه، ونسبوا له الولد والصاحبة، وشبهوه بخلقه؛ لنهم ما قدروه حق قدره.
كذبوا رسله، وقتلوا أنبياءه، وآذوا أولياءه، وكفروا آلاءه وعطلوا صفاته واسماءه؛ لأنهم ما قدروه حق قدره.
بارزوه بالمعاصي، واغضبوه بالذنوب ، قابلوه بالسيئات، وأتوه بالخطايا؛ لأنهم ما قدروه حق قدره.
هجروا المساجد، تركوا المصاحف، عطلوا الشريعة، أماتوا الدين، انتهكوا المحرمات ، لأنهم ما قدروه حق قدره.
كيف لا يقدر له حق قدره، وصفاته جليلة، وأسماؤه جميلة، ومنه كل نعمة كثيرة أو قليلة.
كيف لا يقدر له حق قدره وهو الذي صور فأبدع، وخلق فأحسن، وأعطي فأغني، وتولي فنصر.
كيف لا يقدر له حق قدره ومن نظر في مخلوقاته وتأمل مصنوعاته وتفكر في موجوداته هاله ذلك وأدهشه وحيره. فكيف لا يقدر من خلق وأوجد وبرأ وصتع وصور، جل في علاه، كيف لا يقدر من رفع السماء، وبسط الأرض، وأرسي الجبال ، واجري الماء، وسير الهواء، ومد الضياء ، وأوجد كل شئ كما شاء، فهو صاحب الجميل ذو المنة له الملك وله الحمد وله الثناء الحسن.
إن من تقدير الله حق قدره طاعته فيما أمر، واجتناب ما نهي عنه وزجر، وتصديقه فيما أخبر، والرضا بما قدر ، والشكر علي ما يسر، والحمد له على أنه ستر وغفر، مع متابعة رسوله والعمل بكتابه، والقيام بطاعته وهجر معاصيه، والرضا به رباً، وبالإسلام ديناً ، وبمحمد صلي الله عليه وسلم نبياً ورسولاً.
(الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)
استوي استواء يليق بجلالة ويتناسب مع كماله، لا يشبهه استواء المخلوق الناقص القصير؛ لأن الله أحد في ربوبيته وألوهيته واسمائه وصفاته وأفعاله، فاستوي هنا بمعني علا وصعد، وانظر إلى عظمته في هذا الاستواء فإنه سبحانه وتعالي فوق فله علو الذات، وعلو القهر، وعلو القدر ، علا فقهر، وحكم فقدر، واطلع فستر، وعلم فغفر ، وانظر إلى اسم الرحمن وما فيه من صفة الرحمة العامة الشاملة، واختار عن هنا هذا الأسم؛ لأن رحمته غلبت غضبه، فهو رحمن بالدنيا والآخرة، واستوي يدبر ملكه ويصرف خليقته، فهو بائن من خلقه بذاته، ليس في ذاته شي من مخلوقاته وليس في مخلوقاته شيء من ذاته، وهو بعلمه مع خلقه، وبحفظه مع أوليائه يعلم ويبصر، ويسمع دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء، ويعلم ويري حبة الخردل في الصخرة الملساء، ما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا تلفظ من همسة إلا يسمعها ، وما تدب حركة إلا يطلع عليها، يعلم السر وأخفي من السر، ويعلم ما يكون وما هو كائن،وما لم يكن لو كان، كيف يكون.
على العرش استوي يخلق ويرزق، ويقضي ويحكم، ويقدم ويؤخر، ويعز ويذل، ويولى ويعزل، لا يشغله شأن عن شأن، ولا يحوله مكان ولا يحد بزمان، أخذ بالنواصي وملك الرقاب، نصر أولياءه، وسحق أعداءه، من أحبه قربه، ومن حاربه خذله وأدبه، ترفع إليه المسائل ،وتصعد إليه الحاجات، وترفع له الأعمال ، وتحصي لديه الأقوال ، وتكشف عنده الأحوال، يحفظ من في البر، ويرعي من في البحر، يطعم الجائع، ويسقي الظمآن، ويكسو العاري، وينجي الملهوف ويعطي المسكين ، ويكشف الكرب، ويزيل الخطب، ويسهل الأمر الصعب، ويغفر الذنب، ويقبل التوبة.
على العرش استوي، بني السماء ، وبسط الأرض، وقدر الأوقات، واوجد المخلوقات، وبعدما طحي ودهي وأرسي الجبال، ومهد الفجاج، وأخرج الماء والمرعي، ووهب الأرزاق، وقدر الآجال، وكتب المقادير، وأحصي كل شئ عدداً، خلق الخلق بحسبان، أتقن صنعه، واحسن خلقه، وأبدع موجوداته، واستوى على العرش ليتفرد بالملك وحده، وعلو القهر والقدر وحده، فليس له شريك في ربوبيته، ولا نديد في ألوهيته، ولا شبيه أو مثيل في أسمائه وصفاته، من نازعه الملك محقة، ومن نازعه الكبرياء والعظمة قصمه.
وانظر إشراقة الكلمات الثلاث وجمالها وفخامتها وهي: الرحمن، والعرش، واستوى.
فالرحمن : إعلام لعباده برحمته مع فوة قهره وعلو قدره، ثم هي على صفة المبالغة لعموم الرحمة وعظمتها، والعرش: سرير الملك مع ما في هذه الكلمة من عزة وجبروت وقوة وجلال، وكلمة استوي: فيها من معاني العلو والرفعة والشرف والسؤدد والمجد ما يفوق الأوصاف، ويعجز العقول، ويحير الأفكار ، فسبحانه من ملك جبار، ومن عزيز غفار.
وسبحان ربك رب العزة عما يصفون* وسلام على المرسلين* والحمد لله رب العالمين.
0 تعليق على موضوع : المعجزة الخالدة
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات